كلمة "الجاهلية" تطلق على عصر ما قبل الإسلام، وهي مصطلح يحمل في طياته عدة مفاهيم شاملة؛ فإن الجاهلية ليست عبارة عن مجتمع بشري لا يعرف مقومات ومستلزمات الحضارة المادية أو لا يدرك معايير التطوير والرقي في المادية قديمةً كانت المعايير أو حديثةً، بل الجاهلية في الحقيقة عبارة عن القلق الروحي والاضطراب النفسي الذي استولى على الإنسان فأنكر وحدانية اللّٰه وربوبيته، وامتنع عن قبول الهداية الإلهية السماوية، مما أدى إلى أن شخصا أو مجتمعا إذا أحاطت به هذه الحال فيفضل القوانين الوضعية التي وضعها البشر على القوانين الإلهية، فالانحراف عما أنزله اللّٰه وما جاء به الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم جاهلية، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰه حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ501 تصرح الآية على أن الحكم حكمان: حكم الجاهلية، ما تسوده أهواء الكفار وشهواتهم، وحكم اللّٰه تعالى، وهو القرآن والسنة، فمن أعرض عن القرآن والسنة واتبع أهواء اليهود والنصارى فذاك بمعنى الكلمة جاهلية. وقال الراغب: الجهل على ثلاثة أضرب: الأول: هو خلو النفس من العلم. والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه. والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحًا أم فاسدا، كتارك الصلاة عمدًا، وعلى ذلك قوله تعالى: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللّٰه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ672 فجعل فعل الهزؤ جهلا. 3
كلمة الجاهلية تفيد معنى عاما، ويمكن أن تكون للجهل أنواع أخرى تختلف باختلاف المصالح والمواضع، إلا أن معاني الجاهلية ومفاهيمها تشترك في الانحراف عن القرآن والسنة، والأجدر بالذكر أن نقول: إن كل فعل أو فكر أو اعتقاد إذا كان مخالفًا للحقيقة الواقعية فيسمى جهلًا، ويدخل في معاني الجاهلية عصر ما قبل الإسلام ونظام يعارض النظام الإسلامي في العصر الراهن، وقد وردت كلمة الجاهلية في التنزيل العزيز في هذه المعاني والمفاهيم.
وردت كلمة الجاهلية في القرآن أربع مرات في معنى يشمل الأطوار والأفكار، والعادات والعقائد التي كانت سائدةً في عصر ما قبل الإسلام.
(1)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰه حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ504
يقول ابن كثير: ينكر اللّٰه تعالى على من خرج عن حكم اللّٰه المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة اللّٰه، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. 5
(2)ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّٰه غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ . 6
(3) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّٰه وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّٰه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 337
(4)إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللّٰه سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللّٰه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 268
كل هذه الآي تدل على أن الجاهلية عبارة عن الإعراض والانحراف عن الحكم الإلهي، يعني أن ترك الحكم الإلهي والامتثال بأمر مّا سواء كان فعلًا أو فكرًا أو هوى أو نظامًا أو قانونًا يخالف الكتاب والسنة فهو الجاهلية، وقد وردت في القرآن بمعنى عصر ما قبل الإسلام أي: ما كان الجاهليون منغمسين فيها من الضلالات والجهالات.
وردت كلمة الجاهلية في الأحاديث النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات في هذا المعنى، فمن ذلك:
عن عبد اللّٰه رضي اللّٰه عنه قال: قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية )). 9
وعن عبد اللّٰه بن مسعود رضي اللّٰه عنه قال: قال أناس لرسول اللّٰه عليه وسلم: يا رسول اللّٰه، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: (( أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام )). 10
وقال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في حجة الوداع: (( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة )). 11
وعن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه قال: قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس )). 12
وعن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم قال: (( أبغض الناس إلى اللّٰه ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه )). 13
وعن عائشة رضي اللّٰه عنها قالت: قلت: يا رسول اللّٰه، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: (( لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )). 14
وقول حذيفة بن اليمان رضي اللّٰه تعالى عنه قال: قلت: يا رسول اللّٰه، إنا كنا في جاهلية وشر. 15
وعن أنس بن مالك رضي اللّٰه تعالى عنه قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما. 16
هذه بعض الأخبار والآثار التي أوردناها على سبيل المثال، وإلا فهناك كثير من الأحاديث التي وردت فيها كلمة الجاهلية، أعرضنا عن ذكرها مخافة الإطالة، وكلها تشير إلى أن المراد بالجاهلية كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات، والطقوس والأعياد، والتقاليد والأعراف، والأصول والدساتير التي وضعتها أفكارهم، وهي كانت شريعة جاهلية تخالف شريعة اللّٰه تعالى، فالحاصل أن الجاهلية هي الانحراف عما شرعه اللّٰه لعباده.
إن الجاهلية اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي يحدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضًا بتسميات جديدة. 17
فليست الجاهلية هي المقابل لما يسمى العلم والمعرفة والحضارة والمدنية والتقدم المادي والقيم الفكرية والاجتماعية والسياسية والإنسانية على إطلاقها، إنما الجاهلية -كما عناها القرآن وحددها- هي حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدي اللّٰه ووضع تنظيمي يرفض الحكم بما أنزل اللّٰه، فهي إذن مقابل معرفة اللّٰه والاهتداء بهدي اللّٰه، والحكم بما أنزل اللّٰه، وليست مقابل ما يسمى العلم والحضارة المادية ووفرة الإنتاج، ولم يقل القرآن قط: إن العرب كانوا في جاهلية؛ لأنهم لا يعرفون الفلك والطبيعة والكيمياء والطب أو لأنهم لا يعرفون النظم السياسية أو لأنهم قاصرون في ميدان الإنتاج المادي أو لأنهم خلوا من بعض الفضائل أو خلوا من القيم على الإطلاق، ولو قال لهم ذلك لأعطاهم البديل من نفس النوع! البديل من الجهل العلمي معلومات علمية فلكية وطبيعية وكيميائية وطبية، والبديل من الجهل السياسي نظريات سياسية مدروسة مفصلة، والبديل من القصور في الإنتاج المادي توجيهات لزيادة الإنتاج أو لتحسينه، والبديل من نقص بعض الفضائل وبعض القيم مزيدا من هذه وتلك مطلقة من أي ارتباط؛ ولكنه لم يقل لهم ذلك، ولم يكن البديل الذي أعطاهم إياه شيئًا من ذلك كله، إنما قال لهم إنهم جاهليون؛ لأنهم يحكمون أهواءهم ويرفضون حكم اللّٰه، وأعطاهم البديل من الجاهلية الإسلام، فذلك هو المقياس الذي يقيس به القرآن الحياة البشرية، وهو المقابل للجاهلية، سواء جاهلية العرب أو أية جاهلية غيرها في التاريخ. 18
إن الجاهلية هي حكم البشر على البشر؛ لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية اللّٰه، ورفض ألوهية اللّٰه، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون اللّٰه، وليست هي مختصة بفترة من الزمان ولا مختصة بمكان، ولكنها حالة ينحط فيها البشر بالعيش تحت ظلال شريعة اختلقها الفكر البشري، وعندئذ يقال: أنهم في جاهلية، وليسوا بحال في دين اللّٰه، والأقرب إلى معنى الجاهلية أن من لا يبتغي حكم اللّٰه يبتغي حكم الجاهلية، ومن يرفض شريعة اللّٰه يقبل شريعة الجاهلية. و إن نظرنا بإمعان في جاهلية العرب لوجدنا أنها لم تكن عبارة عن فترة من الزمان ولا قطعة من المكان، بل كانت الجاهلية العربية كل ضلالة أحدثت ضد الهداية، وتشكلت أشكالا متنوعة وصورا متعددة، مبنية على عقائد وعبادات، وأعراف وعادات، وأفكار ونظريات، وهي حياة جاهلية استمرت إلى مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم.
للجاهلية تاريخ قديم في الأرض كما للإيمان، كلاهما يرجع إلى الإنسان الأول، إلى آدم عليه السلام و إلى بنيه، وكلاهما يرجع إلى الطبيعة البشرية ذاتها، في ازدواجها وقابليتها للضلال والهدى، وللجاهلية والعرفان. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا 10 19وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ 1020إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا 321 فكل ما يحدث من البشر على الأرض وكل ما يحدث لهم، إنما يجري على هذه السنة الإلهية التي خلقت الإنسان مزدوج الطبيعة، قابلًا للهدى، وقابلًا للضلال، ولم يحدث للبشر في تاريخهم كله، ولم يحدث منهم خروج على هذه السنة ولا إمكان للخروج عليها في وقت من الأوقات، وتاريخ البشر كله على الأرض لا يخرج عن أحد هذين الوضعين: إما الهدى أو الضلال، الإسلام أو الجاهلية، ويتطور البشر على الأرض تطورات شتى، يتطورون بالمعنى الحقيقي المستقيم للكلمة، أي: أنهم ينمون وينضجون ويتكاملون أو يتطورون بالمعنى الزائف المنحرف، أي: ينحرفون عن سواء السبيل، ويتخذون في تطورهم هذا وذلك صورًا شتى، تلائم البيئة والتقدم المادي والعلمي والمستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ ولكنهم في كل تطوراتهم وفي كل الصور التي يتخذها تطورهم، لا يخرجون عن وضعين اثنين لا يوجد لهما ثالث، إما الهدى و إما الضلال، إما الإسلام و إما الجاهلية، ومن ثم ينتفي في وضوح أي ارتباط بين الجاهلية وبين الزمان والمكان، كما ينتفي أي ارتباط بينها وبين مستوى العلم والتقدم المادي والحضارة والمدنية والتنظيم، والهدى كله جوهر موحد والجاهلية كلها جوهر موحد، ثم تختلف بعد ذلك الصور والأشكال، الهدى هو المعرفة باللّٰه واتباع هداه والجاهلية هي الجهل باللّٰه والابتعاد عن هداه. 22
السمة الأولى لكل جاهلية، سواء هي جاهلية اليونان أو الرومان، أو جاهلية الهند أو جاهلية العرب، وسواء كانت في قديم الزمان أو في حديثه، هي عدم الإيمان الحق باللّٰه تعالى أو عدم الإسلام له في أي شأن، يستوي في ذلك العقيدة والشريعة، بلا انفصال ولا افتراق، فإن الإيمان باللّٰه يقتضي إفراد اللّٰه سبحانه بالألوهية، والإسلام يقتضي إفراده بالحاكمية، والجاهلية تنشأ من عدم إفراد اللّٰه بالألوهية وعدم إفراده بالحاكمية، فتشرك مع اللّٰه آلهة أخرى، ولا تحكم بما أنزل اللّٰه.
و إذا كانت الجاهلية لا تحكم بما أنزل اللّٰه فهي تتبع الأهواء، وتلك هي السمة الثانية لكل جاهلية، النابعة في الأصل من عدم الإيمان الحق باللّٰه تعالى وعدم الإسلام له. وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّٰه وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّٰه إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّٰه أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ 323 فالقضية مترابطة: إما الإيمان باللّٰه، الذي ينشأ عنه الإسلام له واتباع ما أنزله، و إما الجاهلية واتباع الأهواء، وكل شرع غير شرع اللّٰه هوى، وذلك ما قرره اللّٰه، ومصداقه هو تاريخ الحياة. 24 فإما اتباع لشرع اللّٰه فهو الإسلام، و إما اتباع للأهواء فهي الجاهلية في كل زمان ومكان. ۰
السمة الثالثة المشتركة في كل جاهلية هي وجود الطواغيت في الأرض، يهمهم أن ينصرف الناس عن عبادة اللّٰه الواحد والحكم بشريعته؛ ليتحولوا إلى عبادة أولئك الطواغيت والحكم بشريعتهم، أي: بأهوائهم. اللّٰه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۭ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 25725 ووجود الطواغيت سمة ملازمة للبُعد عن منهج اللّٰه، فحين ينحرف الناس عن العبادة الحقة، يتوجهون إلى عبادة كائنات أخرى، بمفردها أو بالإشراك مع اللّٰه، وعندئذ تصبح هذه المعبودات طواغيت، ويستوي أن يكون الطاغوت فردًا أو طائفةً أو جماعةً أو عرفًا أو تقليدًا أو أي قوة تستعبد الناس لها فلا يملكون الخروج عن أوامرها، والطاغوت -سواء كان فردًا أو طائفةً- لايحب للناس أن يؤمنوا باللّٰه ويعبدوه حق عبادته، فإنه لا يستطيع أن يعيش ويتمكن حيث يكون الولاء لله، ولا يعيش ويتمكن إلا بصرف الناس عن عبادة اللّٰه؛ ليتمكن هو من أن يفرض هواه، ومن ثم يقف الطاغوت دائمًا موقف العِداء من العقيدة الحقة؛ لأنه يريد الولاء لشخصه ومصالحه، والعقيدة الحقة تجعل الولاء لله. 26 فالجاهلية كما ذكرناها آنفًا أنها عبارة عن الانحراف عن عبادة اللّٰه تتلازم دائمًا مع وجود الطاغوت.
السمة الرابعة المشتركة وهو مترتبة كذلك على البعد عن منهج اللّٰه -و إن كانت أسبابها كامنةً في الفطرة البشرية ذاتها- هي الانحراف في تيار الشهوات، والشهوات أمر محبب للإنسان. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۭ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللّٰه عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ 1427 وقدر من هذه الأمور كلها ضروري للحياة البشرية، ضروري لمهمة الخلافة التي يتولاها الإنسان في الأرض، ومن ثم كانت الدوافع في كيان الإنسان دوافع الطعام والشراب والمسكن والملبس والجنس والبروز والتملك، لتربطه بالحياة وتدفعه إلى الحياة، ولكنها حين تزيد عن قدرها المعقول، وتصبح شهوة مسيطرة على كيان الإنسان، فعندئذ لا تؤدي مهمتها الفطرية التي أوجدها اللّٰه من أجلها، و إنما تصبح مدمرةً لكيان الإنسان، مبددةً لطاقاته، صارفةً له عن مهمة الخلافة، وهابطةً به عن مستوى الإنسان الكريم الذي كرمه اللّٰه وعلاه، إلى مستوى البهائم ومستوى الشياطين، والذي يحد من اندفاعها وسيطرتها على كيان الإنسان، هو العقيدة في اللّٰه، والحياة في ظل نظام يقوم على شريعة اللّٰه، والتجربة البشرية الطويلة خلال القرون تؤكد هذه الحقيقة، إما الاهتداء بهدي اللّٰه و إما الانحراف في تيار الشهوات وشهوة الجنس في مقدمة الشهوات. 28
تلك سمات تبرز في كل جاهلية، ولا تخلو منها جاهلية في الأرض، وكانت موجودةً في الجاهلية العربية، وهي ناشئة من السمة الرئيسية الكبرى، ألا وهي الانحراف عن عبادة اللّٰه، الذي كان راسخا في الجاهلية العربية عقيدةً وشريعةً، و إلى جانب ذلك كانت في الجاهلية العربية سمات وصفات تتميز بها، وأكثر ذلك أشياء سخيفة ومضحكة، كوأد البنات وخروج بعض الناس لحج بيت اللّٰه الحرام عرايا، وتحريم بعض الحرث والأنعام بلا سبب، أما السمة الرئيسية لكل ذلك فهي الانحراف عن عبادة اللّٰه، وهو الأمر المميز بين الحق والباطل، بين الإسلام والجاهلية، وبين هداية الرحمن وغواية الشيطان.
كانت الجاهلية في العرب بسيطةً في الازدواج والطبيعة بالنسبة إلى الجاهليات الأخرى التي برزت على وجه الأرض من الجاهلية اليونانية والرومانية، فإن الجاهلية العربية لم تقم على أسس علمية ولا عملية، أما جاهلية الرومان واليونان فكانت وليدة أفكار ونظريات وضعوها، وقائمةً على أعمدة العلوم والفنون، وعلى الفلسفة الزائفة والحكمة الزائغة، ولها أسس عقلية اخترعها الفلاسفة الضالون، الذين لم يضعوا الجاهليات بناءً على اختراعاتهم العقلية فحسب، بل حاولوا أن تستند إلى دلائل عقلية ومنطقية.
والأجدر بالتنبيه على أن النظريات العقلية والأفكار المنطقية عند الإغريقيين والرومان إنما هي عبارة عن الجاهلية؛ لأنها لم تكن مستندة إلى تعاليم الأنبياء والرسل ولا كانت فيهم شرائع الأنبياء، فكل ما كان في هاتين الحضارتين والحضارات العالمية الأخرى من الصينية والهندية والفارسية والمصرية والإفريقية وغيرها، متوفرًا للبشرية من العلوم والفنون، والأفكار والنظريات لن تكون بديلًا من الحق القويم والصراط المستقيم، بالرغم من عدم جواز الإنكار عن تقدم هذه الحضارات في المادية إلا أن مناطها المادية فحسب، مما يؤدي بالإنسان إلى جعل غاية الحياة البشرية في الدنيا الاستمتاع بالحياة الظاهرية وتوفير أسباب العيش وتطويرها، ونظرًا إلى ذلك كل التقدمات والتطورات التي حدثت في العصر الراهن في ميادين التكنولوجيا والعلوم الطبيعية، تفرغ على الإنسانية أسباب الراحة والترف والوسائل المادية؛ ولكنها بدلًا من أن تقضي على المصاعب والمشاكل في ميدان التطور والتقدم تزيدها شيئًا فشيئًا، وذلك لأن الاختراعات والاكتشافات الحديثة لم يقصد بها هداية الإنسان إلى الهدف الحقيقي، وحثه على الإنقياد والخضوع لله عز وجل، بل غاية ذلك أن تزيد للإنسان راحةً بدنيةً ورفاهيةً نفسيةً، طبعًا إن ذلك يفضي إلى غفلة الإنسان عن حقيقة العبودية والهداية التي بعث بهاالأنبياء والرسل عليهم الصلوات والتسلميات.
إن دراسة تاريخ البشرية حضاريًا واجتماعيًا تفيدنا أن المادية إذا ارتسخت جذورها أينما كانت، فيضعف الوضع الديني والروحاني، و إن تسلط الفكر المادي على الإنسان أصبحت العبادات والمعاملات الدينية أجنبيةً كأنه لا علاقة له بها، فالتجاهل بمعرفة اللّٰه أو التغافل عن الهدى أو الإعراض عنها كل ذلك يفضي إلى الإلحاد والانحرف عن الهدى، ثم يفضي إلى خراب العلاقات الاجتماعية والأخلاقية والعائلية بين الناس وفسادها، ويصبح الإنسان داعيًا إلى الباطل بدلًا من أن يكون داعيًا إلى الحق، بل فوق ذلك يواجه الحق ويخاصمه، رغم أنه مكلف من حيث فطرته وطبعه أن لا يطغى على الحق والهدى؛ لكنه يلقيه وراء ظهره حبًا للدنيا وطلبًا للأموال حرصًا على الحياة.
و إن نظر في التاريخ البشري بتعمق و إمعان لتجلى أن أصل الفساد من الجاهليات القديمة إلى الحديثة هو الانحراف عن اللّٰه تعالى، فإن الدين عبارة عن العلاقة الأكيدة بين المعبود والعباد؛ ولكن هذه مأساة التاريخ البشري أن الحضارات التي ارتسخت فيها الجاهلية إما ابتعدت عن عقيدتها الفطرية التي جبلت عليها، وهي عقيدة التوحيد، أو أبعدت عنها الأوضاع والأحداث التي وقعت فيها حتى ضعفت صلتهم بربهم.
تدل دراسة الجاهلية العربية على أنها قامت على عماد الانحرف عن عبودية اللّٰه، وهذا الانحرف قد أفسد حياة العرب عقيدةً وشريعةً، وظهر بأشكاله وأنواعه، فكانوا يؤمنون باللّٰه وحده؛ لكنهم يعبدون الأوثان والأصنام أيضًا، فكانت لهم علاقة بالقوانين الإلهية؛ لكنهم يتبعون في شؤونهم وأمورهم أصولًا وضعوها بأنفسهم، وهي أصول اجتماعية وقبلية وعائلية وغيرها، يصف لنا جعفر بن أبي طالب رضي اللّٰه عنه الوضع الجاهلي فيقول للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك! كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللّٰه إلينا رسولًا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى اللّٰه لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد اللّٰه وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام. 29
نظرًا إلى النص السابق نقول: كان المجمتع العربي الجاهلي مجمع المفاسد والمساوئ، فكان من الأمور السائدة فيه الظلم والعدوان، شرب الخمور والانهماك في المياسر والمقامر، والسفاح علانيةً والنكاح مع المحارم، والشهوات النفسانية والملذات الدنيوية، والقتل والنهب بلا سبب أو لسبب تافه، وسفك الدماء وقتل الضعفاء، ووأد البنات أحياءً، زعمًا أنها عارٌ أو ملكٌ للغير، يظلمون الفقراء والضعفاء، ويأكلون أموال اليتامى، ويوقرون الرؤساء والأقوياء، يطوفون بالبيت العتيق عرايا، ولا يستحيون من تدمير العباد والبلاد، ويعبدون الأصنام، ويتقربون لها، ويذبحون عندها، ويعظمونها التعظيم كله، وكانوا يتطيرون ويتشاءمون، ولا يتنزهون عن الخبائث، ومنها أنهم كانوا يأكلون الميتة، ويشربون الدم، فكل مفسدة من المفاسد دينية أو دنيوية كانت رائجة فيهم.
كل ذلك بسبب أنهم كانوا منحرفين عن عبودية اللّٰه وربوبيته، ومعلوم أن الانحراف عن اللّٰه لم يحدث في العالم إلا أن يتبعه انحراف في علاقات الإنسان وارتباطاته وتصوراته وأفكاره، والمنظم لذلك كله هو العقيدة الصحيحة، فإذا صحت عقيدة الإنسان واتبع الهدى استقام الكيان كله، واستقامت خطوته، و إذا اضطربت العقيدة سرى الاضطراب والفساد إلى الكيان كله. وكان من عادات الجاهليين تبرج النساء حيث تخرج المرأة كاشفةً عن محاسنها مارةً بالرجال الأجانب، واتخاذ الحرائر من النساء الأخدان من الرجال، وشن الغارات والحروب بعضهم بعضًا للسلب والنهب، والقبيلة القوية تغير على الضعيفة، إذ لم يكن لهم حكم ولا شرع يرجعون إليه، وذلك فإنهم كانوا على شريعة الجاهلية وهي شريعة تبتني على الانحراف عن عبودية اللّٰه وربوبيته.
أصدق صدق وأعظم حقيقة في العالم هو أن للعالم خالقًا خلقه ومدبرًا يدبره، يجب على الخلائق الانقياد والاستسلام له. وأكذب الكذبات في العالم أنه لا خالق له ولا مدبر له. فالعرب في الجاهلية و إن كانوا متورطين في العادات السيئة والعقائد الباطلة، والطقوس الزائفة والتقاليد الزائغة، لكنهم كانوا يعرفون اللّٰه ويؤمنون بوجوده، ويعتقدون بخالقيته وربوبيته ويتوجهون إليه ولو كان توجهًا سقيمًا، يقول القرآن الكريم عن العرب: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰه ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 2530 وأيضًا قال: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّٰه ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ 8731 وأيضًا قال: قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 84 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ 85 قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 86 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ 87 قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 88 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ 8932
إذن، فقد كانوا يعرفون اللّٰه ويعتقدون أنه الخالق المدبر الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو الذي يقدر على كل شيء، يجير ولا يجار عليه، يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد؛ ولكنهم لم يعرفوه حق معرفته، كما وصفهم القرآن: وَمَا قَدَرُوا اللّٰه حَقَّ قَدْرِهِ 33 ولم يتقوه حق تقاته، ولم يؤمنوا به إيمانًا حقًا صادقًا، ولم يحكموه في أمرهم كله، فعرفوه؛ لكن عبدوا معه آلهةً أخرى، عرفوه؛ لكن لم ينفذوا شريعته.
إن العرب كانوا في هذا الوضع الجاهلي، متورطين في الشريعة الجاهلية، منحرفين عن عبودية اللّٰه وربوبيته ووحدانيته، منغمسين في ظلمات الجهل والظلم والعدوان حتى جاء الإسلام وأضاء العالم بنوره، وطلعت شمس النبوة على صاحبها ألف صلوات وتسليمات في جزيرة العرب فبعث فيهم سيدنا محمد صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى الدين الحنيف، وهو الإسلام.
إن الإسلام ليس صياغة فلسفية نظرية تجريدية للحياة، ولا صياغة تضاف إلى فلسفة دينية، وليس هو عبارة عن عادات وأخلاق، طقوس وعبادات، أعراف ومعاملات، ظاهرية لا حقيقية، وليس هو كملحق زائد بالحياة البشرية، وليس هو ممارسة رياضات روحانية في الحياة الشخصية، يتفكر فيها الإنسان في حقيقته وحقيقة الخالق المدبر كما تكون في الأديان الأخرى، وليس هو مجموعة لعقائد ومبادئ معضلة حتى تقوم بحل هذه العقد طيلة حياتك، وليس هو عبارة عن إيمانيات لا يمكن شرحها ولا بسطها، ولا يمكن تفسيرها ولا تأويلها، وليس هو عبارة عن مواعظ ونصح خلقية لا تؤثر في الحياة العملية، ولا يختص الإسلام بمنطقة ولا بلدة، ولا جيل ولا شعب حتى يضمن الفلاح والنجاح لهذا الشعب دون الآخرين، وليس هو عبارة عن السلطة والسيطرة على الأراضي حتى تخرب له البلاد وتهراق دماء العباد، وليس هو رئاسة ولا قيادة حتى تبذل الجهود والمساعي في نيلها، وليس الإسلام ثمرة لأفكار بشرية عميقة ولا ثمرة أنظار دقيقة، تضع قوانين تختلف حسب اختلاف المراتب والدرجات، وليس هو فلسفة أو فكرة قدمت لمصالح طبقية أو عصبية أو عرقية حتى تفيد شعوبا خاصة، وليس هو نظرية رائعة رائقة كانت مثمرةً قبل قرون، وأصبحت الآن سدى لا فائدة فيها، وليس هو عبارة عن منارات رفيعة ولا قباب جميلة تثير فخامتها وروعتها عظمةً وعزةً في النفوس، ولا تؤثر في الحياة البشرية غير ذلك، وليس هو مجرد اسم لحجاب المرأة ولا لقلانس الرجال ولحاهم، ولا جبات عربية وملابس تحجب الجسم البدني، ما يحمل عند عامة الناس على ديانة العرب، وليس الإسلام أسطورة بالية ولا حكاية عملاقية تقرع الأسماع والأذهان؛ لكن لا تبعث روحًا في القلوب والنفوس.
بل الإسلام اسم لرسالات بعث بها الأنبياء من آدم إلى نبينا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، والإسلام دين ارتضاه اللّٰه تعالى لعباده في كل زمان ومكان. إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّٰه الْإِسْلَامُ 34وهو دين الفطرة. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللّٰه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰه ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ3035 وهو دين اللّٰه تعالى المنزّل من خلال الوحي على النبي صلى اللّٰه عليه وسلم الذي ختمت به جميع الرسالات السماوية، وهو الدين الخاتم الذي ختم اللّٰه به جميع الأديان، ولا يقبل دينًا سواه. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ8536 وهو دين شامل متكامل، عام جامع، صالح لكل عصر ولكل مصر، وهو دين عالمي لكل الشعوب والأمم، وهو دين التوحيد والوحدة والعدالة والرحمة والمساواة، يكفل لمن اعتصم بذيله السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو دين الحقائق الأبدية والقيم الإنسانية السرمدية، ودين الخلق السامية والعقائد الخالصة الخالدة، وهو دين الوسطية والاعتدال، دين يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهو دين لطف ورحمة. وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ 36 وهو دين الهداية للبشرية جمعاء، يرشد الإنسان في العقيدة والشريعة، في العادات والعبادات، في تنظيم الحياة اجتماعيًا واقتصاديًا، قانونيًا وعسكريًا، وهو دين قائم على وحي سماوي وعلم إلهي. والإسلام هو النهج الرباني الخالد، لا ينحرف بانحرافات البشرية، وهو المنهج الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الطاغوت إلى اللّٰه، وهو المخلص للناس من الجاهلية الطاغية الراهبية. والإسلام مبني على أركان وعقائد أساسية، وفيما يلي ذكر عقائد الإسلام الأساسية.
كانت العرب تعتقد في الجاهلية بوجود خالق للوجود وأن له ما في السموات والأرض، ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه العقيدة نتائجها المنطقية من توحيد اللّٰه بالعبادة والحاكمية، فأشركوا في العبادة، وابتدعوا شرائع وتقاليد نسبوها إلى اللّٰه، وزعموا أن الملائكة بنات اللّٰه، وعبدوا الأصنام بزعمهم أنها تماثيل الملائكة والملائكة بنات اللّٰه، فاعتبروها آلهة دون منزلة ومرتبة الخالق، ويعبدونها على أن لها شفاعة وتقربهم إلى اللّٰه، ثم نسي هذا الأصل، وعبدوا جنس الحجارة، وكانوا من خلال ذلك بصدد توكيد علاقتهم بالخالق، وبعضهم تهودوا، وبعضهم تنصروا، وبعضهم ألحدوا في ذلك، وكل ذلك انحرافات عقدية، ومظاهر جاهلية، تفضي إلى فساد العقيدة الصحيحة الثابتة الصافية الخالصة، الضامنة لمن تمسك بها السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
العقائد جمع عقيدة، والعقيدة هي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده. وقيل: هي مجموعة من قضايا الحق البديهية المسلمة بالعقل والسمع والفطرة، ويعقد عليها الإنسان قلبه، وثنى عليها صدره، جازما بصحتها قاطعا بوجوبها وثبوتها، لا يرى خلافها أنه يصح أو يكون أبدًا. 38 ولا شك أن العقيدة الصحيحة هي العقيدة الإسلامية، وهي الأسس التي يقوم عليها الدين، وهي الركائز الكبرى، وتسمى ثوابت، وتسمى مسلّمات، وتسمى قطعيات، وهي أصول الدين العظمى التي ينبني عليها الدين للفرد والجماعة، فهو أساس الدين وركن دعامته، ومبادئ الدين الأخرى تابعة لها ومتفرعة عنها، وقد بعث جميع الأنبياء إلى البشرية ودعوا إلى هذه العقائد الأساسية التي هي المعرّفة باللّٰه وبعبوديته وبربوبيته وبوحدانيته، وهي المقابل للانحراف عن عبادة اللّٰه تعالى، والأجدر بنا أن نلخصها في أمور، وهي الإيمان باللّٰه وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، وتسمى هذه أركان الإيمان. 39 وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه أن جبرئيل عليه السلام قال لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: أخبرني عن الإيمان. قال: (( أن تؤمن باللّٰه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره )). 40 وتفصيل هذه الجزئيات فيما يلي.
الإيمان باللّٰه أعظم أركان الإيمان، وأصل من أصوله، بل هو أصل الأصول، والإيمان هو الإقرار والتصديق. 41 أي: إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وهو شهادة أن لا إله إلا اللّٰه وأن محمدا رسول اللّٰه. 42 والإيمان باللّٰه هو الاعتقاد الجازم بأن اللّٰه تعالى واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وهو رب كل شيء ومليكه، ليس له شريك في الملك هو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، المحيى والمميت، المتصرف في جميع شؤون الخلق، وهو المستحق لجميع أنواع العبادة من الخضوع، والخشوع، والخشية، والإنابة، والقصد، والطلب، والدعاء، والذبح، والنذر ونحو ذلك، ومن الإيمان باللّٰه الإيمان بما أخبر به عن نفسه في كتابه الكريم، أو أخبر به عنه رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم من الأسماء والصفات، وأنه متفرد بهذا عن جميع المخلوقات، وأن له الكمال المطلق في ذلك كله، إثباتًا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل. 43
والإيمان باللّٰه ثابت بالقرآن المبين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّٰه وَرَسُولِهِ 44قُلْ هُوَ اللّٰه أَحَدٌ 1 اللّٰه الصَّمَدُ 2 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ 4 45 اللّٰه لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۭ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ 255 46 بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101 ذَٰلِكُمُ اللّٰه رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102 لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103 47
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، كما مر ذكرها ضمن حديث جبريل عليه السلام، والملائكة جمع ملك بفتح اللام، وهم نوع من مخلوقات اللّٰه عزّ وجلّ، خلقهم مجبولين على طاعته وعبادته. وقيل في تعريفهم: هم عباد اللّٰه وخلق من خلقه، وهم السفرة بين اللّٰه وبين رسله عليهم السلام، وهم عالم غيبي، خلقهم اللّٰه من نور، وجعلهم طائعين متذللين له، ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء. 48 ولا بد من الإيمان بأن الملائكة نوع من خلائق اللّٰه، خلقت من نور، وأنهم عباد مكرمون، لا يوصفون بالذكورة والأنوثة، لا يعصون اللّٰه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا اللّٰه تعالى. 49 ورؤساؤهم الأملاك الأربعة: جبريل وميكائيل و إسرافيل وعزرائيل عليهم السلام، الموكلون بالحياة.
قال اللّٰه تعالى في التنزيل العزيز: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ 285 50شَهِدَ اللّٰه أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18 51الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا 7 52وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 75 53 إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ 20654اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللّٰه عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 155 وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ 3056 فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ 3857 مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللّٰه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 658 صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ 13 مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ 14 بِأَيْدِي سَفَرَةٍ 15 كِرَامٍ بَرَرَةٍ 1659 وعن عائشة رضي اللّٰه عنها قالت: قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( خلقت الملائكة من نور )). 60
معنى الإيمان بالكتب المنزلة أن يؤمن بأنها من عند اللّٰه، وأنها وحي اللّٰه إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند اللّٰه بغير شك ولا ارتياب، وأن القرآن لم يحرف ولم يبدل ولم يغير، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه يكشف عن متشابهه. 61 ونزل على موسى التوراة وعلى عيسى الأنجيل وآتى داود زبورًا، ونزل على نبينا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم القرآن، وكلها منزل بالحق المبين والهدى المستبين، وأنها كلام اللّٰه وعلمه، لا كلام غيره ولا علم غيره، تكلم بها حقيقةً كما شاء، وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع منه من وراء حجاب بدون واسطة، ومنها ما يسمعه الرسول الملكي، ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري، والإيمان بكل ما فيها من الشرائع السماوية، وأنه كان واجبًا على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقياد لها والحكم بما فيها. أما الإيمان بالقرآن، فالإقرار به، واتباع ما فيه، وأنه كتاب اللّٰه تعالى وكلامه وعلمه، لا يأتي كتاب بعده، ولا يغير ولا يبدل لشيء من شرائعه بعده.
قال اللّٰه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللّٰه وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ 62 آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ 28563 كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ 64 وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 5365 وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 66 وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ 4667 إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ 18 صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ 1968 إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 969 وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 192 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ 19570 وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ 8971 وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 4272
الإيمان بالرسل والأنبياء أصل من أصول الإيمان، معناه ومبناه على أن يعترف ويعتقد بأن جميع الأنبياء قد اختصهم اللّٰه بوحيه و إرساله، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ شرعه ودينه، وأن اللّٰه أيدهم بالبراهين الدالة على صدقهم، وصحة ما جاؤوا به، وأنهم أكمل الخلق علمًا وعملًا، وأصدقهم وأبرهم، وأكملهم أخلاقًا وأعمالًا، وأن اللّٰه خصهم بخصائص وفضلهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد، وأن اللّٰه برأهم من كل خلق رذيل، وأنهم معصومون في كل ما يبلغونه عن اللّٰه، وأنه لا يستقر في خبرهم وتبليغهم إلا الحق والصواب، وأنه يجب الإيمان بهم، وبكل ما أوتوه من اللّٰه ومحبتهم وتعظيمهم، وأن هذه الأمور ثابتة لنبينا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم على أكمل الوجوه. 73
فيجب الإيمان بأن الأنبياء بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم اللّٰه به، والإيمان بهم جميعًا جملةً؛ لأنه لم يأت في عدد الأنبياء نص صريح. قال اللّٰه تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ 74وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ 75 وبالجملة منهم من ورد ذكرهم في القرآن آدم، 76 و إدريس، 77 ونوح، 78 و إبراهيم و إسماعيل و إسحاق ويعقوب، 79 ويوسف، 80 وموسى وهارون، 81 وشعيب، 82 ولوط، 83 وهود، 84 وداؤد وسليمان، 85 وزكريا ويحيى وعيسى و إلياس، 86 وأيوب ويونس، 87 واليسع، 88 وذو الكفل، 89 وصالح، 90 وعزير، 91 عليهم الصلوات والتسليمات.
ثم جاء في الأخير نبينا وسيدنا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، وقد ختمت به النبوة والرسالة. مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللّٰه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۭ وَكَانَ اللّٰه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 4092 فالإيمان بأن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم آخر الأنبياء وأنه لا نبي بعده واجب، وأن كل من ادعى النبوة بعده صلى اللّٰه عليه وسلم من مسليمة وسجاح وطليحة والقادياني الملعون كلهم دجالون كذابون، فبعث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم وأدى الأمانة ونصح الأمة. لَقَدْ مَنَّ اللّٰه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَ إِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 16493 فالواجبات المهمة هي أربعة: تلاوة آيات اللّٰه، وتزكية قلوب الناس، وتعليم الناس القرآن، وتعليمهم الحكمة، أما الأمور الأخرى تنفيذ الأمر الإلهي والجهاد في سبيل اللّٰه و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة وغيرها فهي أمور تدخل تحت هذه الأربعة.
الإيمان بالقدر خيره وشره هو الاعتقاد الجازم بأن كل خير وشر أنه بقضاء اللّٰه وقدره، وأن اللّٰه تعالى علم ما يكون قبل أن يكون، وكتب ذلك عنده في اللوح المحفوظ، وأنه ما شاء اللّٰه كان وما لم يشأ لم يكن، وأن اللّٰه خالق كل شيء، وفعال لما يريد عز وجل، وأنه يعلم الأشياء كلها، وأنه كتب كل شيء، وأحصى كل شيء وأنه الخالق لكل شيء، ليس في الوجود شيء إلا خلقه وأحاط بكل شيء علمًا، بدليل قول اللّٰه عز وجل: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللّٰه يَسِيرٌ 2294 وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا 295 وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۭ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللّٰه وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ 68 وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ 6996 إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ4997 الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ 2 وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ 398أَنَّ اللّٰه عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّٰه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا 1299وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللّٰه رَبُّ الْعَالَمِينَ 29100
الإيمان باليوم الآخر هو الاعتقاد الجازم بصدق كل ما أخبر به اللّٰه عز وجل في كتابه العزيز أو أخبر به رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما بعد ذلك من البعث والحشر والصحف والحساب والميزان والحوض والصراط والشفاعة والجنة والنار، وما أعد اللّٰه تعالى لأهلهما فيهما. 101
قال اللّٰه تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللّٰه يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ 7102اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ 17103كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ 27104وَلَا تَدْعُ مَعَ اللّٰه إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 88105 قُلِ اللّٰه يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 26106 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 3107
إن الإسلام دين كامل، أكمله اللّٰه تعالى على يد رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم منزّلا للبشرية جميعا إلى قيام الساعة. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا 108 والإسلام يقوم على أركان ودعائم خمسة. روي عن ابن عمر رضي اللّٰه عنهما قال: قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّٰه وأن محمدًا رسول اللّٰه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )). 109 وتفصيلها فيما يلي.
المراد بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا اللّٰه وشهادة أن محمدًا رسول اللّٰه. 110 والاعتقاد الجازم بأن اللّٰه تعالى واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وهو رب كل شيء ومليكه، ليس له شريك في الملك هو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، المحيى، المميت، وأن محمدًا عبده ورسوله ونبيه وصفيه، آخر النبيين وخاتمهم، لا نبي بعده ولا أمة بعد أمته.
إن الصلاة هي عماد الدين وركنه الركين، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( الصلاة عماد الدين )). 111 وهي عبادة دينية فريدة من نوعها، سهلة لكل رجل ميسور ومعسور، لا دخل فيها لدوافع ثقافية ولا طائفية، أركانها أبسط للغاية، وهي مجموعة القيام والركوع والسجود والجلوس، وأفضل طريقة يناجي العبد فيها ربه، ويستغفر لذنوبه ويتوب عنها، ويظهر الندم عليها.
إن الصلاة لما لها من الأثر العظيم البالغ في تهذيب النفوس وتقويم السلوك وفي تقوية الإيمان؛ فرضها اللّٰه تعالى على الأنبياء والأمم السابقة، فلم تخل منها شريعة من الشرائع، وقد حكى القرآن وصاة اللّٰه بها لأنبيائه وأقوامهم، فقد دعا إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام به فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ40112 فاستجاب اللّٰه دعاءه فكان ابنه إسماعيل عليه السلام من المصلين. وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا55113 ومن بعدهما خاطب اللّٰه نبيه موسى عليه السلام فقال: إِنَّنِي أَنَا اللّٰه لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي14114 وأوصى العذارء البتول بالصلاة فقال: ييَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ43115 وبين المسيح عليه السلام أمر اللّٰه تعالى له بالصلاة، فقال وهو في المهد: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّٰه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا31116 وأخذ اللّٰه الميثاق على بني إسرائيل أن يحافظوا على الصلاة. وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللّٰه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ 117 ومن بعدهم جاء نبينا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، وفرضت عليه وعلى أمته عبادة الصلاة عندما أسري من الكعبة المشرفة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء السابعة، فكان صلى اللّٰه عليه وسلم يدعو إلى تعظيم اللّٰه وتوحيده والصلاة له بأمر اللّٰه تعالى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا 118
شرعت عبادة الصلاة فرضًا على كل مسلم عاقل بالغ في كل يوم وليلة خمس مرات، والصلاة من أفضل العبادات التي تزكي النفوس البشرية عمليةً وروحانيةً، ولها أثر كبير في تيسير الأمور وتفريج الهموم ودفع الغموم وتوسعة الرزق، وسبب للراحة والطمأنينة، ولذهاب القلق النفسي والاضطراب القلبي. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ 97 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ 98 119 وتركها يفضي إلى الضيق والعسرة في الحياة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا 120 والصلاة سبب للسعادة الأخروية ولدخول الجنة، قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( مفتاح الجنة الصلاة )). 121 وبها تتحقق صلة العبد بربه تعالى. (( والصلاة نور )). 122 (( وأول ما يحاسب به العبد الصلاة )). 123
أما الصلوات الخمسة المفروضة فهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، شرعت صلاة الفجر بعد طلوع الصبح الصادق إلى طلوع الشمس، والظهر بعد زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، والعصر بعد ذلك إلى بعيد اصفرار الشمس، والمغرب بعد غروب الشمس إلى زوال حمرتها، والعشاء من زوال الحمرة إلى منتصف الليل، وغير هذه الخمسة هناك صلوات أخرى غير مفروضة، لكنها مشروعة، منها صلاة الوتر وهي واجبة. 124 وصلاة التهجد في الليل المظلم. 125 و إذا مست الحاجة أيا ما كانت فقد شرعت صلاة الحاجة. 126 وإذا حدث القحط والجفاف ولم تمطر السماء فقد شرعت صلاة الاستسقاء. 127 وعندما تنكسف الشمس فصلاة الكسوف. 128 وعند انخساف القمر صلاة الخسوف. 129 وصلاة الخوف في الحرب، ولها طريقة مخصوصة. وكلها مشروعة ليتقرب بها العبد إلى اللّٰه وتتحق صلته به جل وعلا، ولتزكي قلبه وتطهر نفسه وتحرضه على عبادة اللّٰه وحده. إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا 103 130
إن الزكاة أمر عظيم، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، وقد جمع اللّٰه بينها وبين الصلاة في مواضع كثيرة من كتابه العظيم. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ 43 131وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 56 132 وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّٰه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 5 133 وقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّٰه وأن محمدا رسول اللّٰه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )). 134 فالزكاة حكم شرعي فرض كما فرضت الصلاة.
نزل حكم الزكاة بعد ما هاجر النبي صلى اللّٰه عليه وسلم إلى المدينة المنورة، والزكاة واجبة على كل مسلم عاقل بالغ حر إذا ملك مالا يبلغ نصاب الزكاة وحال عليه الحول، بشرط أن كان فارغًا عن الدين وحاجته الأصلية، وناميًا ولو تقديرًا. 135 أما مصارف الزكاة فقد ورد ذكرها في الآية القرآنية، يقول اللّٰه تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّٰه وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللّٰه وَاللّٰه عَلِيمٌ حَكِيمٌ 60136 هذه هي ثمانية أصناف تأخذ مال الزكاة.
إن الغرض من تشريع الزكاة هو إشراك الفقراء والمساكين ومن على شاكلتهم في أموال الأغنياء، فلما بعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم سيدنا معاذًا إلى اليمن قاضيًا أو واليًا قال له: (( أخبرهم أن اللّٰه فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، وترد إلى فقرائهم )). 137 والزكاة هي أساس العدالة الاجتماعية في المجتمع المسلم، ففيها اشتراك في المنفعة والثمرة لا في أصل المال، فقد ترك الشارع لأهل الأموال أموالهم لينموها، ثم فرض فيها حقًا لازمًا لا يجوز التساهل فيه. 138 قال سبحانه في صفة عباد اللّٰه المتقين: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ19. 139
من فوائد الزكاة إتمام إسلام العبد، وحصول طاعة اللّٰه بتنفيذ أمره، وتثبيت أواصر المحبة بين الغني والفقير، وتطهير النفس وتزكيتها، والبعد بها عن خلق الشح والبخل، وتعويد المسلم على صفة الجود، والكرم، والعطف على ذوي الحاجات؛ والرحمة للفقراء، وحفظ النفس عن الشح، واستجلاب البركة والزيادة والخلف من اللّٰه تعالى، وهي برهان على صدق إسلام مخرجها، وهي تشرح الصدر، وتلحق المسلم بالمؤمن الكامل، وهي من أسباب دخول الجنة، وتجعل المجتمع المسلم كالأسرة الواحدة، يرحم القوي القادر الضعيف العاجز، والغني يحسن إلى المعسر، فيشعر صاحب المال بوجوب الإحسان عليه كما أحسن اللّٰه إليه، قال اللّٰه تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّٰه إِلَيْكَ 140 فتصبح الأمة الإسلامية كأنها عائلة واحدة، وتطفئ حرارة ثورة الفقراء؛ لأن الفقير قد يغضب، لما يرى من تنعم الأغنياء، فإذا جاد الأغنياء على الفقراء كسروا ثورتهم وهدؤوا غضبهم، وتمنع الجرائم المالية مثل: السرقات، والنهب، وما أشبه ذلك؛ لاستغناء الفقراء عن هذه الجرائم بإعطائهم الزكاة، أو بالصدقة والإحسان إليهم. 141
الصيام هو رابع أركان الإسلام، وهو عبادة فرضها اللّٰه على المسلمين في شهر رمضان، وهو الشهر التاسع من شهور التقويم الهجري، وفيه يمتنع المسلم عن الطعام والشراب والجماع، فإن الصوم في اللغة: الإمساك، وفي الشريعة: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الكف عن قضاء الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، من شخص مخصوص، وهو أن يكون مسلمًا طاهرًا من الحيض والنفاس، وفي وقت مخصوص، وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة، وهو أن يكون على قصد التقرب. 142
الصوم كان مكتوبًا على الأمم السابقة سواء كان ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك، بدليل قول اللّٰه عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ183143 فهذه الآية تدل على مشروعية الصيام في الإسلام وفرضيتها على المسلمين، وتدل على أنه كان مشروعًا في أمم الأنبياء السابقين، أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما تشير إلى الحكمة في الصيام، وهو التقوى، فغايته تدريب المؤمن على حياة التقوى والامتثال بأوامر اللّٰه واجتناب المناهي، وتحريره من أسر الشهوات والعبودية للملذات، وقد أخبر النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بأثر الصيام في ضبط الغرائر بقوله: (( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء )). 144 والحكمة في الصوم حصول التقوى لمباشره، إذ لا مشروع أدل على التقوى منه، فإن من أدى هذه الأمانة كان أشد أداءً لغيرها من الأمانات، وأكثر اتقاءً لما يخاف حلوله من النقمة بمباشرة شيء من القاذورات، و إليه الإشارة في الآية السابقة، وفيه معرفة قدر النعم ومعرفة ما عليه الفقراء من تحمل مرارة الجوع فيكون حاملًا على مواساتهم، وفيه إطفاء حرارة الشهوة الخداعة المنسية للعواقب، ورد جماح النفس الأمارة بالسوء، وانقيادها لطاعة مولاها إلى غير ذلك من معان لا تحصى. 145
الحج ركن خامس من أركان الإسلام الخمسة، وهو في اللغة القصد. وفي الشريعة: عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم؛ لأداء ركن من أركان الدين عظيم، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بقصد، وعزيمة، وقطع مسافة بعيدة. 146 أما بيت اللّٰه الحرام فقد جعله اللّٰه تعالى منارًا للتوحيد ورمزًا للعبادة وقبلةً للمسلمين. جَعَلَ اللّٰه الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ 147 وهي أول بيت وضع للناس على وجه الأرض من أجل عبادة اللّٰه. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ96. 148
وللكعبة المشرفة تاريخ طويل، يبتدئ منذ عهد آدم عليه السلام بعد أن أهبطه اللّٰه إلى الأرض، ذكر ابن إسحاق أن أول من بناها آدم عليه السلام. وقيل: أول من بناها شيث عليه السلام. وكانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم عليه السلام، ويأنس بها؛ لأنها أنزلت إليه من الجنة. وقيل: أول من بناها الملائكة. 149 وقد روي عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم قال: (( بعث اللّٰه جبريل عليه السلام إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بناء، فخط لهما جبريل عليه السلام، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء، نودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوحى اللّٰه تعالى إليه: أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم عليه السلام القواعد منه )). 150 فالكعبة المشرفة موجودة منذ زمن آدم عليه السلام، فلما جاء الطوفان رفع البيت، وأودع الحجر الأسود أبا قبيس. 151 وقيل: كان موضع الكعبة قد خفي، ودرس في زمن الغرق. 152 ثم رفع إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام تلك القواعد. وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ 153 يقول ابن عباس رضي اللّٰه عنهما: فقام إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام يحفران عن القواعد، ويحفرانها، ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127154 ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته، ويبني الشيخ إبراهيم، فلما ارتفع البناء، وشق على إبراهيم تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر، يعني المقام، فكان يقوم عليه، ويبني ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت. 155 وتم البناء واستوى، ثم استقرت في مكة بعض القبائل العربية من العماليق وجرهم، وتصدع الكعبة مرارًا لكثرة السيول والعوامل المؤثرة في بنائها، حتى قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بخمس سنين، ثم أعيد بناؤها للتعمير مرارًا على مسرح التاريخ.
لما تم بناء البيت العتيق في عهد إبراهيم عليه السلام فأمره اللّٰه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 27156 وما زال الناس يحجونه ويطوفون به ويأتون إليه من بلدان قريبة ونائية، وقد فرض اللّٰه تعالى في الإسلام على المستطيع الذي لم يجد مانعًا من الوصول إلى البيت الحرام. وهو فرض في العمر مرةً، لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا 157 وكذلك يعتمر المسلمون ويأتون أفواجًا إلى العمرة، والعمرة سنة مؤكدة في العمر مرة لمن استطاع إليها سبيلًا. 158
أما طريقة الحج فيلبس الحاج ثوب الإحرام الأبيض وهو الإزار والرداء، أو يلبس ثوبًا يطرح كما يطرح الرداء. 159 وينوي الحج. 160 ويدخل المسجد الحرام فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط. 161 ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط. 162 ثم يقضي يوم التروية (الثامن من ذي الحج) في منى، يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى ثم يغدو إذا طلعت الشمس، إلى عرفة في اليوم التالي (التاسع من ذي الحج). 163 ويقف بها من طلوع الشمس إلى غروبها ويصلي الظهر والعصر في وقت الظهر، ولما زاغت الشمس فينتقل الحاج إلى مزدلفة. 164 فيقضي تلك الليلة فيها، ثم في اليوم العاشر إذا طلع الفجر صلى مع الإمام الفجر بغلس فإذا وقف الإمام وقف معه، ودعا. والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ثم أفاض مع الإمام قبل طلوع الشمس مهللًا مكبرًا ملبيًا حتى يأتي منى، فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي، جاعلًا مكة عن يساره ومنى عن يمينه بسبع حصيات. 165 ثم يذبح الهدي إن أحب، ثم يحلق أو يقصر شعره. 166 ثم يأتي مكة من يومه ذلك أو من الغد أو من بعد الغد فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط، فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه و إن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى بعده، ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف. 167 ثم يعود إلى منى فيقيم بها، فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث، فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عندها، ثم يرمي التي تليها مثل ذلك ويقف عندها، ثم يرمي جمرة العقبة كذلك ولا يقف عندها، و إذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس كذلك، و إن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر، و إن أراد أن يقيم رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد زوال الشمس. 168 ثم يدخل مكة ويطوف بالبيت طواف الوداع سبعة أشواط لا يرمل فيها. 169 ويستحب له إذا أراد الرجوع أن يأتي باب الكعبة، فيقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيلزمه ساعةً ويبكي، ويتشبث بأستار الكعبة، ويلصق خده بالجدار إن تمكن، ثم يأتي زمزم، ويشرب من مائه، ويصب على جسده. 170 وبعد أداء مناسك يمكنه أن يتوجه إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم ولزيارة قبره صلى اللّٰه عليه وسلم.
إن لبس ثوب الإحرام الأبيض إشعار بالوحدة والمساواة والأخوة والألفة بين البشرية قاطبةً، واجتماع المسلمين من أقطار الأرض هذا دليل على أن علاقة الأخوة الإسلامية والعصبية الإسلامية هي أقوى علاقة تربط المسلمين فيما بينهم، وتحكم صلتهم بخالقهم الحقيقي، والطواف بالبيت العتيق خاصًا لوجه اللّٰه الكريم إظهار الحب الشديد باللّٰه تعالى، والسعي بين الصفا والمروة والصلاة في مقام إبراهيم، وذبح الهدايا كل دليل على أن المؤمن يتبع سنة الأنبياء، سنة إبراهيم وسنة إسماعيل وسنة هاجر عليهم السلام، صبرًا وشكرًا، وتواضعًا وتوكلاً على اللّٰه، ويبرئ عن اتباع الشيطان برمي الجمرات، ويعزم على أنه يجتنب عن غواية الشيطان ويقترب إلى هداية الرحمن. ومن فوائد الحج الفوز بالجنة والنجاة من النار، وطهارة النفس والبدن من أوزار الذنوب والمعاصي، وإعلان العبودية لله وحده وخلع ما سواه، والتجرد والتحرر من شهوات النفس وملذاتها، وأنه ينمي روح المحبة والتعاون بين المسلمين، ويدعو إلى الوحدة الشاملة الكاملة بين المسلمين، وأنه إذلال للشيطان ومرضاة للرحمن، ويشعر بالمساواة بين الناس وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ويعلم المؤمنين البذل والفداء. 171
كانت الأعياد في الجاهلية عبارة عن اللّٰهو واللعب والغفلة، والمبالغة في الترف الجسماني والنفساني. والأفراح عبارة عن الانهماك في الفرح والمرح، وعن الانغماس في شرب الخمور، كانوا لايشكرون اللّٰه على نعمائه وآلائه اللائي أنعم بها عليهم، ولايرون إلى أمور شرعية ولا محظورة، بل كانوا يشبعون رغباتهم الجنسية والشهوانية. ثم جاء الإسلام وشرع اللّٰه للمسلمين من الأعياد ما يفرحهم دون بطر، وما يحدد شخصيتهم دون تقليد، وما يشيع في حياتهم السعادة والاستقرار، حيث جاء الإسلام وفي الناس عادات وتقاليد، فكان شأنه من تلك العادات والتقاليد أن أقر منها الصالح الذي يسمو بالإنسانية ويرقى بها، ويعطيها القوة والصلاح، ورفض ما عدا ذلك. 172 وفي الإسلام عيدان سن الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم الحفاوة بهما ورسم طريق هذه الحفاوة، وهذان العيدان، هما عيد الفطر وعيد الأضحى. 173
عيد الفطر هو عيد إسلامي يحتفل به المسلمون بعد شهر رمضان، في اليوم الأول من الشهر العاشر، شهر شوال من التقويم الهجري، فرحًا بإتمام عبادة الصيام في شهر رمضان. (( وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات )). 174 وهي سنة الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، فيستحب للمسلمين أن يأكلوهن وترًا، ثم يخرجون إلى المصلى فيصلون الصلاة ويخطب الإمام خطبةً. 175 (( وقد خطب الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم حيث قام متوكئًا على بلال، فأمر الناس بتقوى اللّٰه وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن )). 176 وعيد الفطر يرتبط بالسرور الذي يحصل عليه المسلمون، وقد استطاعوا أن يلبوا أمر ربهم بصيام شهر رمضان، فهم يفرحون بأن كملت لهم هذه النعمة وتمت لهم هذه الغاية. 177 فيتصافحون ويتعانقون فرحًا وسرورًا. ويأمرنا الإسلام بمساعدة الفقراء والمساكين في الأعياد والأفراح، وذلك أمر تعبدي يبعث روح الألفة والأخوة الإسلامية في قلوب المسلمين في كل العالم.
أما عيد الأضحى فيحتفل به المسلمون في اليوم العاشر من شهر ذي الحج، الشهر الثاني عشر من التقويم الهجري، وهو اليوم الذي سماه اللّٰه في كتابه الكريم يوم الحج الأكبر، قال تعالى: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّٰه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ 178 وفي هذا اليوم تلتقي جموع من المسلمين من كل حدب وصوب في مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فيرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير، ويقوم الناس كذلك في مختلف الأقطار والأصقاع بالتهليل والتكبير، فيتجاوب الصدى في كل مكان، وتهتز به الرياح في جميع البلدان. 179 ويقدم المسلمون فيه الأضحية؛ اتباعا بسنة إبراهيم عليه السلام. قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا )). 180 (( وقد ضحى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر )). 181 فينبغي للمسلم أن يسمي اللّٰه ويكبر عند الذبح حيث يقول: بسم اللّٰه، اللّٰه أكبر، وقد أمر النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بتقسيم اللحوم والجلود على الفقراء والمساكين. روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أمره: (( أن يقسم بدنه كلها، لحومها وجلودها وجلالها، للمساكين )). 182
لقد أحدث الإسلام ثورةً كبيرةً في المجتمع العربي الظالم الغاشم، حيث يقاتل الناس فيه لأتفه أسباب، والثورة الإسلامية هي ثورة حقيقية قلبت صفحة العرب من الباطل إلى الحق، وأخرجتهم من أعماق الضلال وظلمات الجهل إلى أنوار العلم والعرفان حتى تشرفوا بقيادة البشرية وإمامتها، وأسسوا مجتمعهم على صلة الإيمان ورابط العقيدة والوحدة الإسلامية بدلًا من علاقات ركيكة، دمًا كان أو لغةً أو لونًا أو مصلحةً محليةً أو شعبيةً، وفي أسرع وقت ظهرت لرابط الإيمان نتائج وثمرات حيث أصبح كل رجل من كل شعب وملة ولغة وعرق، جزءًا لهذا المجتمع الإسلامي، وكان المسلم لابد له أن يكون عيشه وعشرته وفق تعاليم الإسلام، وأن يكون أسلوب حياته على غرار ما قدمه الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في ضوء الوحي الإلهي، وهو عبارة عن مراعاة القانون الإلهي واتباعه.
المجتمع الإسلامي لا يميز بين الناس لكون بعضهم من قبيلة قوية أو شعب فلاني، بل يقررهم على رتبة واحدة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا 183يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً 184 وذلك لأن ولادة الإنسان لا تحدد له رتبةً خاصةً في المجتمع، فالذاتية تنافي مبادئ الإسلام الأساسية، بل الإسلام يوضح أن المؤمنين كلهم سواء. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ 185 فليس في الإسلام معيار يميز بعضهم عن بعض إلا التقوى. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّٰه أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللّٰه عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13186 وقد قال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى )). 187 ولما كان العرب يتفاخرون بتفوقهم اللساني ويستصغرون العبيد والنساء، فأصبحوا بعد أن جاء الإسلام مثلًا باهرًا في الإخاء والمساواة، وأقاموا حضارةً بشريةً لم يسبق لها نظير في تاريخ العالم.
يهتم الإسلام بشكل ملحوظ ببناء الأسرة؛ وذلك لأن الأسرة السوية الصحية هي أساس الحياة الاجتماعية السوية، وهي أساس المجتمع المتكامل، ونظرًا إلى تعاليم الإسلام في هذا الاتجاه فإن الإنسان يصبح مؤمنًا كاملًا إذا كانت له عشرة طيبة مع عشيرته وأقربائه، ولا بد من ذلك، وقد قال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( لا رهبانية في الإسلام )). 188 وقال اللّٰه تعالى: وَاعْبُدُوا اللّٰه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ 189 والغرض الأوفر من الإحسان إلى هذه الطبقات بناء الأسرة وتشييد نظامها.
قدم الإسلام الحنيف نظامًا تربويًا متكاملًا للبشرية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، ويتسم البناء التربوي الإسلامي بخاصية فريدة تميزه عن كافة النظريات الوضعية وهي أن مصدره كتاب اللّٰه وسنة نبيه الكريم صلى اللّٰه عليه وسلم. 190 وأول مركز للتربية الإسلامية هو الأسرة، قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه )). 191 وهذا يدل على أن الأبوين هما أول من يربيان الأولاد في المجتمع الإسلامي، وقد أمر القرآن بصراحة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ . 192 فالأبوان يهتمان بتربية الأولاد جسمانيًا ودينيًا وروحيًا؛ ليتحلوا بالأخلاق الحميدة، وليتجنبوا عن الخصال الرذيلة، وليتبعوا القوانين الإلهية سرًا وعلنًا، فأجود المراكز لنشر الحب والوِداد، والرحمة والشفقة، هو الأسرة المثالية، وهي التي تأسس عليها المجتمع العربي الواعي، وهو أفضل المجتمعات في العالم حيث أعد ناسًا لا يقصدون بحياتهم إلا السعادة في الدنيا والآخرة.
لقد أحكم الإسلام علاقةً زوجيةً بتوفير الحقوق والواجبات المتبادلة، تضمن تماسك الأسرة واستمرارية العلاقات الزوجية وسيادة المودة والرحمة والتفاهم المتبادل، وتضمن العلاقة الزوجية في الإسلام مركزًا تعليميًا وتربويًا للجيل الجديد، بل فوق أن كانت العلاقة الزوجية لإشباع الرغبة الجنسية، ربطها الإسلام ببقاء الأسرة وتكوين المجتمع البشري، ونبّه الذين يقصرون العلاقات الزوجية على تحقيق الشهوات النفسانية أن العلاقة الزوجية الصحيحة الكاملة ترفع المجتمع إلى ذروة الخلق العالية، وتضمن لهم السعادة والنجاح والتطوير في الدنيا والآخرة، وتكوّن جيلًا متأهلًا لقيادة الأمة الإسلامية، فأمر اللّٰه تعالى بإنكاح المسلمين والمسلمات: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰه مِن فَضْلِهِ ٔ . 193 وقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام، فإن الصوم له وجاء )). 194 وإذا كان الإسلام قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات فإنه جعل القوامة للرجل. الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّٰه بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ٔ . 195 فالرجل هو المسئول عن المرأة، مكلف بالإنفاق عليها وصيانتها ودفع الشر عنها، فهي مسئولية قوامة وتكليف وليست مسئولية سيطرة وسلطان وقهر، وهذه المسئولية تقتضيها ضرورة الاجتماع. أما المرأة فقد قال اللّٰه تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ . 196 فحق اتخاذ القرار النهائي في أمور منزلية يكون للرجل حيث لا يصدره عن تسلط، ولكن عن شورى وتبادل للرأي وإقناع واقتناع، وعلى هذا فإن المرأة تعد قوةً من قوى تشكيل القرار، وهذه الاستراتيجية الأسرية كفيلة بدوام الأسرة واستمراريتها وتماسكها. وقال اللّٰه عز وجل: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ . 197 وتشير هذه الآي الكريمة إلى عمق علاقة الزوجية، بحيث تتخطى كل العلاقات الأخرى في أهميتها؛ فإن العلاقة الزوجية في نظر الإسلام ميثاق غليظ، وعلاقة الزوجين علاقة سكن ومودة ورحمة، وهو أساس لإنجاب الذرية من البنين والأحفاد، والزواج هو العملية الاجتماعية التي تتكون منها الأسرة، وتتفرع عنها غصون الإنسانية شعوبًا وقبائل، تتعارف وتتعاون، وتكون منها الأمة الفاضلة التى تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحقق للإنسان معنى الخلافة التي خلق من أجلها. 198
كانت المرأة قبل الإسلام لا قدر لها عند الجاهليين، بل كانوا يحتقرونها ولا يعطونها شيئًا من المال؛ لأنها في زعمهم لا تقاتل ولا ترد الأعداء، كانت مستضعفةً، مهضومة الحقوق، مهيضة الجناح، مسلوبة الإرادة، مهدورة الكرامة، وتعتبر من سقط المتاع، يتوارثه الناس كما يتوارثون الأرض والبناء والأثاث، بل كانوا يذهبون إلى اعتبارها عارًا يتخلصون منه بجريمة قتل بشعة إذ يدفنونها حيةً. قال تعالى: وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 58 يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 59199 و إذا سلمت من الوأد وعاشت فإنها تعيش عيشة المهانة، فليس لها حظ من ميراث قريبها مهما كثرت أمواله، ومهما عانت من الفقر والحاجة؛ لأنهم يخصون الميراث بالرجال دون النساء، بل إنها كانت تورث عن زوجها الميت كما يورث ماله، وكان الجمع الكثير من النساء يعشن تحت زوج واحد حيث كانوا لا يتقيدون بعدد محدد من الزوجات غير عائبين بما ينالهن من جراء ذلك من المضايقات والإحراجات والظلم، فما كان لها كرامة، بل كان الرجل إذا تزوج امرأةً في الجاهلية ومات عنها فإنها تصبح ملكًا لأوليائه أو لورثته، فيرثها أخوه أو أبوه، وقد تكون جاريةً، أو يتزوجها أخوه، ولا يمكن أن تنفك عنهم بحال من الأحوال.
أما شريعة الإسلام فهي شريعة جامعة متكاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، من الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، وجعل للنساء من الأحكام مثل ما للرجال، وجعل لهن حقوقًا في الأموال والأملاك، وجعل النساء شقائق الرجال، وأعاد لهن اعتبارهن في الإنسانية. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا . 200 فذكر اللّٰه سبحانه وتعالى أن المرأة شريكة الرجل في مبدأ الإنسانية، كما هي شريكة الرجل في الثواب والعقاب على العمل، فالمسلمة في طفولتها لها حق الرضاع، والرعاية، و إحسان التربية، وهي في ذلك الوقت قرة العين، وثمرة الفؤاد لوالديها و إخوانها، و إذا كبرت فهي المعززة المكرمة، التي يغار عليها وليها، ويحوطها برعايته، فلا يرضى أن تمتد إليها أيد بسوء، ولا ألسنة بأذى، ولا أعين بخيانة، و إذا تزوجت كان ذلك بكلمة اللّٰه، وميثاقه الغليظ؛ فتكون في بيت الزوج بأعز جوار، وأمنع ذمار، وواجب على زوجها إكرامها، والإحسان إليها، وكف الأذى عنها، والإسلام قد ضمن للمرأة استقلال شخصيتها، وجعلها وارثة لا موروثة، وجعل للمرأة حقًا في الميراث من مال قريبها، فقال تعالى : لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 7201 وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللّٰه فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَ إِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ . 202
فإذا كانت المرأة بنتًا فلها حقوق البنوة على الآباء، و إذا كانت أختًا فلها حقوق الأخوة على الإخوان، و إذا كانت أمًا فلها حقوق الأموة على الأبناء. وعن أبي هريرة رضي اللّٰه تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( ثم أمك)) قال: ثم من؟ قال: (( ثم أمك)) قال: ثم من؟ قال: (( ثم أبوك )). 203 و إذا كانت زوجةً فلها حقوق الزوجية. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ . 204 وقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( خيركم خيركم لأهله )). 205 ومن إكرام الإسلام للمرأة أن يأمرها بما يصونها، ويحفظ كرامتها، ويحميها من الألسنة البذيئة، والأعين الغادرة، والأيدي الباطشة؛ فأمرها بالحجاب والستر، والبعد عن التبرج، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، وعن كل ما يؤدي إلى فتنتها، ومن إكرام الإسلام لها أن أمر الزوج بالإنفاق عليها، و إحسان معاشرتها، والحذر من ظلمها، والإساءة إليها.
كانت العبودية قد نشأت في أحضان الجاهلية، وترسخت مبانيها في أذهانهم كجزء للاقتصاد الاستغلالي، ثم جاء الإسلام مهتمًا بتقليل طرق الاسترقاق وسد مصادره وفتح أبواب تحرير العبيد، فكان مصدر الاسترقاق الأول العدوان، فقد حرمه اللّٰه تعالى بقوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللّٰه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 190206 وقال تعالى: فَلَا عُدْوَانَ اِلَّا عَلَي الظّٰلِـمِيْنَ 207 والمصدر الثاني للاسترقاق الانتصار في القتال وأخذ الأسرى، وقد أغلق اللّٰه عز وجل هذا الباب أيضًا بقوله: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّٰه لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰه فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ 4. 208 فجعل التعامل مع الأسرى بين أمرين، إما المن على الأسير بإطلاق سراحه، و إما الفداء أي: فدية نفسه بالمال أو بالعمل.
بالرغم من أن الإسلام أغلق مصادر الاسترقاق فقد فتح أبواب العتق أيضًا في صور متنوعة، وحرض المسلمين على الإعتاق والتحرير. قال عزّ وجلّ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ 14 فَكُّ رَقَبَةٍ 13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14. 209 وسهل الإعتقاق في صورة أداء الكفارات، فجعل عقوبة القتل الخطأ في ثلاث حالات، تحرير رقبة مؤمنة. قال اللّٰه عزّ وجلّ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَ إِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّٰه ۗ وَكَانَ اللّٰه عَلِيمًا حَكِيمًا 92. 210 وجعل عقوبة الحنث في اليمين الكاذب ثلاثة أشياء، أحدها تحرير رقبة. قال اللّٰه تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّٰه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . 211 وجعل عقوبة مظاهر زوجته تحرير رقبة. قال تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . 212 وقد أمر اللّٰه تعالى المسلمين بمكاتبة العبيد أيضًا بقوله: أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللّٰه الَّذِي آتَاكُمْ . 213
لقد خفض الإسلام للرقيق جناح الرحمة والشفقة عليهم، فأوجب على السيد حسن معاملة عبيده وإمائه، وأوصى المسلمين أن ينزلوهم منزلة أفراد أسرتهم. قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللّٰه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ 214 فتشير هذه الآية إلى إيجاب حسن المعاملة مع الرقيق وقرنه اللّٰه تعالى بوجوب عبادته وعدم الشرك به، وجعلهما في منزلة واحدة. قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( إخوانكم خولكم، جعلهم اللّٰه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم )). 215 فوضع الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم العبيد ومواليهم في مرتبة واحدة، وجعل أولئك إخوانًا لهؤلاء، ورتب على ذلك أنه لا ينبغي أن يحرم العبيد شيئًا مما ينعم به مواليهم في المأكل والمشرب والملبس وما إلى ذلك.
كان الناس في المجتمع الجاهلي قد تجاوزوا كل الحدود في الأعمال القبيحة والفواحش والمحرمات، كان الزنا معروفًا في الجاهلية، يفعله الرجال علنًا؛ إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم، وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عد ابنًا شرعيًا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به. 216 والمتعة كانت شائعةً بينهم، لم يكن أي حد لعدد الزوجات اللائي يتزوج بهن الرجل، ولا العلاقة بالبغايا لإشباع الرغبة الجنسية عيبًا، و إذا مات الرجل انقسمت زوجاته على أبنائه كإرث لهم، يتزوجون بأم الأب، ومثل هذه الشنائع والقبائح كانت رائجةً شائعةً فيهم.
فجاء الإسلام غير متجاهل عن هذه القبائح ولم يصرف النظر عنها ظنًا بأنها أخطاء بسيطة وقعت في الماضي، بل أمر بالعقاب الشديد على ارتكاب الزنا، قال اللّٰه عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰه إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ2. 217 فأمر القرآن بالجلد حدًا على الزنا؛ لئلا يشيع في المجتمع، وليخاف من أراد ارتكابها، والمقصد من ذلك تطهير المجتمع من جميع الأنشطة غير الأخلاقية التي تتيح للناس فرصًا لمثل هذه الممارسات الإباحية وتشجعها. فإن السفاح من أعظم الجرائم الخلقية والاجتماعية التي تهدم الأسرة وتحطم بنيان المجتمع، لما يترتب عليه من مفاسد وآثار سيئة كفساد الأنساب وضياعها ووجود الأحقاد والضغائن بين الناس، وما يترتب عليه أيضًا من إلحاق العار بمرتكبه وبأهله وعشيرته.
لقد حرم الإسلام السفاح وشرع النكاح، والنكاح بناء للأسرة على الحب والمودة لا على التعالي والإكراه. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 21 . 218 النكاح في الإسلام عبادة دينية يؤجر المرء عليها؛ لأنه في حقيقته بناء للأسرة المسلمة، والأسرة نواة المجتمع، والنكاح مسؤولية اجتماعية، تحمل كلا الزوجين مسؤولية البناء والتنمية، وذلك من خلال الوفاء بحقوق الزوجية، ورعاية الأطفال وتربيتهم، ورعاية حقوق الأقارب والأرحام، والنكاح يحفظ الأنساب، فيكون المجتمع كله قويًا متماسكًا، لابتنائه على أواصر القرابة والرحم، والأبوة والبنوة، والزوجية والمصاهرة، و إذا كانت الأسرة متماسكةً قويةً كان المجتمع متماسكًا قويًا كذلك، والنكاح يقوم على التوازن في الاستجابة لفطرة الإنسان وغريزته، فكما لم يدع الإسلام إلى الرهبانية والتبتل، فإنه حرم الإباحية المطلقة، فالإسلام لم يكبت الفطرة، ولم يطلق لها العنان، بل كان وسطًا بين الإفراط والتفريط، ولذلك قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني )). 219 والإسلام خيّر المرأة في الزواج. روي عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أن جاريةً بكرًا أتت النبي صلى اللّٰه عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيّرها النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. 220 فالنكاح إذن تبعات وتكاليف جسام لإنشاء أسرة، يحفز عليه غريزة الجنس، تحقيقًا للمقاصد العليا الإنسانية.
أما ركن النكاح فهو الإيجاب والقبول، والإيجاب ما يتلفظ به أولا من أي جانب كان والقبول جوابه. 221 وينعقد بلفظ النكاح، والتزويج وما عداهما مما يفيد ملك العين في الحال كلفظ التمليك، والهبة، والصدقة، 222 أو ما يقوم مقام اللفظ في انعقاد النكاح كالإشارة من الأخرس إن كانت إشارته معلومة. 223 ويشترط أن يكون بحضور شاهدين حرين بالغين عاقلين مسلمين سامعين معا قول المتعاقدين فاهمين كلامهما أو رجل وامرأتين، عدولا كانوا أو غير عدول. 224 ويجب المهر في كل نكاح؛ لقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم . 225 ويستحسن عند اجتماع الأقرباء والأحباء في العرس أن يطعمهم الزوج طعامًا يسمى بالوليمة. قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( أولم ولو بشاة )). 226 وبذلك يعلن النكاح ويدعى للزوجين بالخير والبركة في الحياة الزوجية.
لقد أجاز الإسلام للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، إلى أربعة زوجات؛ لكن بشرط أن يعدل بينهم و إلا فلا يجوز له ذلك؛ لقول اللّٰه تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً . 227 ومنع المرأة من التزوج بأكثر من رجل في وقت واحد؛ وذلك لأن اللّٰه تعالى جعلها وعاءً، فلو حملت بجنين لما عرف أبوه، فاختلطت الأنساب وتهدمت البيوت، وتشرد الأطفال، وأصبحت المرأة مثقلةً بالصبيان الذين لا تستطيع القيام بتربيتهم والنفقة عليهم، حتى أن بعض النساء تضطر إلى تعقيم أنفسهن، وهذا يؤدي إلى انقراض الجنس البشري، ومعلوم أن من أعظم مقاصد النكاح حفظ الأنساب، ولا يحصل ذلك في تعدد الأزواج.
كان الناس في الجاهلية لا يفرقون بين القرابات المحرمة وغيرها، فكانوا يجوزون النكاح بجميع النساء إلا بعضها، ولما جاء الإسلام فمنح أصولًا جامعةً؛ احترامًا للقرابات، مما أدت إلى الاعتناء بها، ولم يكتف على هذا، بل بعث فيها روح الحرمة والقداسة، وبذلك أصبح المجتمع الجاهلي -أخلاقيًا وعائليًا- نموذجا مثاليًا. أما المحرمات في الإسلام فهي ما نص عليها القرآن: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّٰه كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 23 . 228 وقال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها)). 229 وهذا مثل الجمع بين الأختين.
هذه أنكحة محرمة للأبد، لا يجوز للرجل أن ينكح هؤلاء النساء، وهناك بعض أنكحة تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، نذكرها في التالي.
لا يجوز للمسلم أن ينكح مشركة. قال تعالى: وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ . 230 أما اليهودية والنصرانية من أهل الكتاب فيجوز بها النكاح، قال عز وجل: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ . 231
يجوز للمسلم الحر أن يتزوج بالأمة بإذن مولاها إن لم يستطع طول الحرة؛ لقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ . 232 ويكره له ذلك مع طول الحرة. 233 أما السيد فلا يجوز له أن ينكح أمته إلا أن يعتقها. 234
لا يجوز للرجل أن ينكح امرأة في عدة غيره، سواء كانت العدة عن طلاق أو وفاة. 235
لا يجوز للرجل أن ينكح امرأة طلقها طلاقًا ثلاثًا إلا أن ينكحها رجل غيره ويطأها، ٍثم يطلقها أو يموت عنها قال اللّٰه تعالى: فَاِنْ طَلَّقَھَا (تطليقات ثلاثة) فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْۢ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَہ (ويطأها) فَاِنْ طَلَّقَھَا (الزوج الثاني) فَلَا جُنَاحَ عَلَيْھِمَآ (الزوجة والزوج الأول) اَنْ يَّتَرَاجَعَآ (إلى الزواج الجديد بعقد جديد بعد انقضاء العدة). 236
كان الناس قد مارسوا الطلاق في الجاهلية، وجعلوه حقًا مكتسبًا للرجل، يستخدمه كما شاء، دون تحديد عدد للطلقات، وكان للمرأة أحيانًا حق طلب الطلاق، وقد تطلق نفسها إذا ما اشترطت ذلك الحق لنفسها عند عقد النكاح، وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية، ولم تكن النساء يومذاك بحاجة إلى المصارحة بالطلاق، بل كان حسب البدويات منهن أن يحولن أبواب أخبيتهن إن كانت إلى الشرق فإلى الغرب، أو كانت إلى الجنوب فإلى الشمال، وكان لهن إذا لم يكن ذوات أخبية أساليب يدللن بها الرجال على الطلاق، فليس لهم عليهن من سبيل، فكان بعضهن إذا تزوجت رجلًا وأصبحت عنده كان أمرها إليها، وتكون علامة ارتضائها للزوج أن تعالج له طعامًا إذا أصبح. 237 فلم يكن هناك نظم مرتب ولا عدد محدد للطلاق.
هذا كان شأن الطلاق في الجاهلية حتى جاء الإسلام ومنح للناس نظام الطلاق المعتدل، بأن يكون الطلاق واحدًا في طهر، ثم الثاني في الآخر، ثم الثالث في الآخر. قال اللّٰه تعالى: اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّٰه ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّٰه فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰه فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰه فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 29 فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّٰه وَتِلْكَ حُدُودُ اللّٰه يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 30وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّٰه هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰه عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللّٰه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 31 وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّٰه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 32 . 238
إن الطلاق الذي يحدث في الأغلب في الأوضاع الصعبة لا بد أن يعامل مع المرأة فيه بعدل، وبرفق ورحمة، ولا بد أن يتمسك فيه بذيل الإحسان وحسن المعاملة، ولا بد أن يستحضر المسلم في ذهنه قول الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( أبغض الحلال إلى اللّٰه عز وجل الطلاق )). 239 وهذا يتطلب من المسلم أن يحترز عن التطليق قدر ما بوسعه، وفي ضوء هذه الأحكام الشرعية كون الإسلام في جزيرة العرب مجتمعًا قويًا منظمًا مبنيًا على نظام عائلي مربوط بالأفراد جميعًا، وذلك لم يؤثر على المجتمعات المعاصرة فحسب بل بقيت آثاره العميقة على المجتمعات والأدوار التي مرت عبر التاريخ البشري، وبهذه المحاسن انتشر الإسلام في الآفاق والأطراف واتسعت حدود الخلافة الإسلامية في أرجاء المعمورة.
إن الإسلام قد جعل حق الطلاق للرجل، ولكن لم يجعل المرأة مجبورة محضة، بل المرأة إن أرادت مغادرة الزوج لأمر ما، مثلًا كرهت زوجها لخلقه أو لطبعه الخشن أو لا تعجبها صورته فلها أن تفتدي عن نفسها شيئًا من المال، وتغادر الزوج وتفسخ النكاح، وذلك هو الخلع، وهو الطلاق بالعوض سواءً كان ذلك مالًا أو مهرًا أو أكثر منه أو أقل. والأصل فيه قول اللّٰه تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّٰه ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّٰه فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ . 240 روي عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى اللّٰه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّٰه، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( أتردين عليه حديقته؟ )) قالت: نعم، قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة )). 241
هذا الحديث يدل على أن المرأة إن كانت كارهةً لزوجها واستحالت الحياة بينهما فلها حق طلب الاختلاع والافتداء منه بمال تعرضه عليه. والطلاق الواقع بالخلع يكون بائنًا. 242 فالإسلام قد حافظ على حقوق الزوجين في فسخ النكاح سواءً كان الفسخ بالطلاق أو بالخلع، وليس الحفاظ على الحقوق فقط، بل سد كل الطرق والأبواب التي تقضي على القرابة الزوجية لأمور تافهة.
لقد عالج الإسلام الأخطاء والمفاسد الواقعة في عادات العرب وعباداتهم ومعتقداتهم وتعاملاتهم كما أسس لهم أصولًا متينةً جامعةً لإصلاح حياتهم الاجتماعية؛ لئلا يبقى أي خلل في حل الأمور الاجتماعية، وفيما يلي ذكر بعض المفاسد والمساوئ التي كانت شائعةً في المجتمع الجاهلي العربي، وذكر علاج الإسلام لها.
كان الناس في الجاهلية يقتلون أولادهم مخافةً أن يلحقهم الفقر. قال اللّٰه عز وجل: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ . 243 ولم يذم الإسلام هذه الهمجية فحسب، بل أبطلها تمامًا ووصفها بالجريمة الشنعاء، قال اللّٰه تعالى: وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 58 يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 59 . 244 فهنا كلمة التبشير تشير إلى أن المرأة تليق بالعزة والكرامة، وتجدر بمكانة عالية ومنزلة رفيعة لا أن تقتل وتدفن حيةً من إملاق. قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا 31 . 245 ووجه الإسلام المسلمين إلى أن يتوكلوا على اللّٰه، وأن يجتنبوا عن مثل هذه العادات القبيحة، وقد جعل العرب المحامين لأولادهم مكان القاتلين لهم، وجعل البنت رحمةً وحجابًا من النار. قال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة )). 246
كان السفاح معروفًا في الجاهلية، شائعا بين الناس، وقد كان المجتمع الجاهلي أسوء المجتمعات، وفي درجة عالية من الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، وكان غرض حياتهم الأكبر إدمان الخمور والانغماس في الأهواء والشهوات النفسانية، ثم جاء الإسلام وبين أن رأس العلاقات المحرمة هو السفاح وهو أهم سبب للفساد والفوضى في المجتمع. ومنع القرآن من ذلك بقوله: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا 32 . 247 بل فوق ذلك أمر بالعقاب الشديد على ارتكاب الزنا. قال اللّٰه عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰه إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ 2 . 248
إن غلظة حد الزنا وهو الجَلْد وخاصةً الرجم إذا كان الزاني محصنًا تشعر بخطورة هذه الجريمة الشنعاء، وهذه الحدود والعقوبات لها دور فعال في تنقية وتصفية المجتمع العربي من الفواحش والعلاقات المحرمة والدعارة، ونتيجة لذلك زالت من المجتمع العربي جميع الأفعال القبيحة من الزنا واللواطة والدعارة والعلاقات غير الشرعية والغير الأخلاقية، ونظرًا إلى الفطرة الخلقية أذن الإسلام للمسلمين أن يتزوجوا بأربع زوجات كحد أقصى؛ ليشبع الإنسان رغبته الشهوانية من الطريق الحلال بدلًا من ارتكاب الحرام، فمن خلال حظر الإسلام العلاقات غير الشرعية ضمن للمسلمين حفظ حسبهم ونسبهم وعفتهم وعفافهم، مما أدى إلى تكوين المجتمع المتطور المتألف من النفوس الزكية، ذات خلق عالية، صرفوا أعمارهم في حصول الأهداف المنشودة حتى خلدت أسماؤهم على صفحة التاريخ البشري إلى الأبد.
لم يكن في عصر ما قبل الإسلام أي منهج تعليمي ولا نظام تربوي لدى العرب، ولكن كان الأطفال يتعلمون الكتابة والقراءة من القراء والكتاب، وكذا يكتسبون العلوم والفنون الأخرى من المهرة البارعين، لم تكن هناك معاهد ومؤسسات تعليمية ولا للناس شغف بالقراءة والكتابة، ومعظم العرب آنذاك كانوا بارعين في الشعر والأدب، واللسان والبيان، كانوا يحفظون مئات بل آلاف الأشعار عن ظهر القلب، فالحقيقة أن العرب انتشرت فيهم علوم وفنون تلائم طباعهم البدوية، فكانت لهم يد طولى في علم الأنساب والخطابة والكهانة والقيافة والتنجيم والفروسية وتدريب الخيول على العدو والطب وعلم الأنواء والرياح الموسمية، وغيرها، مع ذلك لا نجد في التاريخ شواهد تدل على وجود مؤسسات ومعاهد تعليمية لتعليم القراءة والكتابة، بل كان الصغار يتعلمون قدر ما بوسعهم من الكبار في الحضر أو يتعلمون منهم في السفر، وبعضهم كانوا يشدون الرحال إلى الحيرة والشام وإلى مراكز تعليمية أخرى.
أما الإسلام فقد ركز النظام التعليمي على بناء الإنسان بشكل متكامل، وأكد على التعليم والتعلم حتى في الوحي الأول حيث قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 5 . 249 وللعلم أهمية جلى في الإسلام. يَرْفَعِ اللّٰه الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . 250 لكن بشرط أن يزينوا العلم بالعمل، وينشروه في المجتمع، وقد وجب على المرء المسلم اكتساب العلم قدر ما يقضي به حياته حسب أمر ربه، ونظرًا إلى أهمية العلم والمنزلة الرفيعة لأهله في الإسلام قامت في العالم العربي ثورة علمية فكرية واعية جعلت البدو أئمة أهل العلم في عدة عقود.
إن الإسلام قد أتاح فرصةً لكل إنسان أن يتحصل على العلم، بل قال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم: (( طلب العلم فريضة على كل مسلم )). 251 أما العلم الديني فهو السبب الأصلي للتزكية والتصفية الروحانية في الدنيا، وسبب للحصول على أعلى الدرجات في الآخرة، والإسلام يحث الإنسان على هذا العلم الذي هو مأخوذ من مشكاة النبوة على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات.
لم يفرق الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم بين طلبة العلم على أي أساس، لا على فطانة قوية ولا مكانة مرموقة في المجتمع ولا على أساس آخر، بل علّم صلى اللّٰه عليه وسلم كل أحد جاء لطلب العلم رجلًا كان أو امرأةً، صغيرًا كان أو كبيرًا، شابًا كان أو شيخًا، حتى كان يحضر مجلس النبي صلى اللّٰه عليه وسلم جميع الصحابة رضي اللّٰه عنهم، أغنياء كانوا أو فقراء، وهذا هو جمال النظام التعليمي في الإسلام حيث لا يرى فيه أثر التمييز بين الناس، وأتاح فرصة طلب العلم لكل أحد، ولذلك أسست المعاهد والمكاتب، وأعد المعلمون الذين نشروا العلم إلى أنحاء العرب.
اهتم الإسلام بتعليم النساء اهتمامًا بالغًا حيث قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة )). 252 فوضع للنساء معاهد ومناهج تعليمية وتربوية؛ لئلا يقع المجتمع الإسلامي في الانحطاط التعليمي والخلقي، وأسس نظامًا تعليميًا حيث لا يختلط الرجال مع النساء أثناء القراءة والدراسة. روي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّٰه عنه قال: قالت النساء للنبي صلى اللّٰه عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن. 253 وكانت أزواج النبي صلى اللّٰه عليه وسلم يعلمن نساء المؤمنين. ولذلك كانت معظم النساء آنذاك فاضلات عالمات.
ولم يكتف الإسلام بتعلم الأحرار فحسب، بل أوجب على العبيد أن يكون لهم مثل ما للأحرار في ميدان التعليم والتربية، فقد قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( رجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران )). 254 فقد حرض النبي صلى اللّٰه عليه وسلم المؤمنين على تعليم الإماء وتربيتهن، هذا هو المنهج الإسلامي تجاه العلم والتعليم، حيث أوجب على كل مسلم أن يتعلم ويتأدب قدر ما يحتاج إليه في حياته اليومية، ليتزين كل رجل في المجتمع الإسلامي بزينة العلم والعرفان.
كان النظام الاقتصادي في الجاهلية مفككًا متدهورًا جدًا حيث كان زمام الاقتصاد بيد رجال أثرياء معدودين، وأكثرهم كانوا فقراء مساكين، فمن ناحية كانت طبقة متسلطة على الوسائل الاقتصادية، ومن ناحية أخرى كان الاقتصاد رهينًا بيد يهود يثرب وخيبر، كان اليهود يشعلون نيران الحرب الداخلية، ثم يمارسون تجارة الأسلحة لإراقة الدماء ويقرضون الناس قرضًا رِبويًا لإطالة أمد الحرب، فكانت لهم ديون ضخيمة على العرب، مما أدت إلى النظام الاستغلالي للثروة والمصرفية بطريقة تضر العرب ضرًا جسيمًا، الربا والقمار والشغف القلبي بالأموال كانت عامةً بين الأغنياء، والربا كان شائعًا للغاية حتى رهنت النساء والأطفال بيد المقرضين، فإن لم تؤد الديون في مدة معينة ملكها المرتهن، وأكثر من كان بمخالب المرابين طبقة العمال والمزارعين. أما الأثرياء وعلى الأخص اليهود فكانوا يعذبون الناس بأنواع من العذاب، وهذا الفساد الاقتصادي أدى بعض الأفراد والقبائل إلى التمرد والطغيان حتى نهبوا القوافل التجارية والقبلية وقطعوا طرقهم عدة مرات، وكان منهم من يعتمد اقتصادهم على نهب الأموال وقطع الطرق وشن الغارات، ثم جاء الإسلام ووفر للناس نظامًا اقتصاديًا متوسطًا يضمن التوزيع العدل للثروة، وأدى ذلك إلى توازن كبير في الأموال الهائلة في بضع سنوات حتى لم يبق من يستحق الزكاة.
إن الإسلام يدعو الناس إلى أن كل شيء في الكون، ثروة كانت أو غيرها، كله بيد اللّٰه عز وجل، يملكه ويتصرف فيه كيف ما شاء، وكل هذه النعم أمانة عند الإنسان، لا يجوز له التصرف فيها إلا وفق ما أمره اللّٰه تعالى، ومعلوم أن اللّٰه تعالى خلق الأرض والسماء وما فيهما لمنفعة الإنسان، فلا فوقية لأحد على آخر، ولا يمتاز أحد عن الآخر في طلب الرزق والمعاش مما خلقه اللّٰه تعالى، بل كل ما خلقه اللّٰه في السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما هو للناس كافةً. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا . 255 مع ذلك أمر اللّٰه تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّٰه الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّٰه إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ . 256 فلابد للإنسان أن يطلب من رزقه حلالًا لا حرامًا، وأن يطلب من رزقه طيبًا لا خبيثًا، وقد قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى اللّٰه، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه )). 257
إن الإسلام ينهى البشرية كلها عن غصب الأملاك ظلمًا وعدوانًا، ويأمرهم بالتعامل مع التراضي من الجانبين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ . 258 ويهددهم بالوعيد الشديد على النقص في الكيل والوزن. وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ 1 الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ 2 وَ إِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ 3 . 259فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 85 . 260 فمن امتثل بأوامر اللّٰه عز وجل فذلك أمارة الإيمان، ومن أعرض عنها فذلك أمارة الخسران في الدنيا والآخرة.
اعلم أن الربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به، وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك. 261 وقد منع الإسلام من الربا مطلقًا سواءً كان ربا النسيئة أو ربا الفضل، وحرمة الربا ثابتة بالكتاب والسنة، قال اللّٰه تعالى: وَأَحَلَّ اللّٰه الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . 262 وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 278 فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّٰه وَرَسُولِهِ وَ إِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ 279 . 263 وعن جابر رضي اللّٰه عنه قال: (( لعن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء )). 264 وروي عن عبد اللّٰه بن سلام قال: الربا اثنان وسبعون حوبًا، أصغرها حوبًا كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم في الربا أشد من بضع وثلاثين زنية. 265 ولقد حرم الإسلام الربا لعدة وجوه:
الأول: إن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدًا أو نسيئةً فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرمًا.
الثاني: إن اللّٰه تعالى حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئةً خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات.
الثالث: السبب في تحريم عقد الربا، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض.
الرابع: إن الغالب أن المقرض يكون غنيًا، والمستقرض يكون فقيرًا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغني من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالًا زائدًا.
الخامس: إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بحرمة عقد الربا، و إن كنا لا نعلم الوجه فيه. 266
كان القمار أيضًا عامًا رائجًا بين العرب، وهو من الأشغال المفضلة لدى الأغنياء الأثرياء، وقد حرمه الإسلام حرمة غليظة، قال اللّٰه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 . 267 فإن القمار يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني الفارغة لا على العمل والجد واحترام الأسباب التي وضعها اللّٰه تعالى وأمر باتخاذها، والإسلام يريد من المسلم أن يتبع سنن اللّٰه تعالى في اكتساب المال الحلال وأن ينتظر المسببات من أسبابها.
كما أن الإسلام حرم بعض الأشياء وحرم بيعها، فقال تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ . 268 كذلك قد منع عن بعض أنواع البيوع الشائعة في الجاهلية، منها: الملامسة، والمنابذة، والمخابرة، والمحاقلة، والمزابنة، والمخاضرة، وبيع الحصاة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع المصراة، وبيع عسب الفحل، وبيع النجش، وبيع المطعوم قبل قبضه، وبيع المسلم على المسلم، وبيع ما فيه غرر، وبيع بيعتين في بيعة، وبيع الحاضر للبادي، وغيرها من أنواع البيوع التي فيها ضرر أو غرر لأحد البائعين.
إلى جانب ذلك شرع بعض أنواع البيوع أو قررها كما كانت في الجاهلية، وذلك لأن يقوم نظام الاقتصاد الإسلامي على أسس متينة، وهي فيما يلي.
وهي البيع بأي ثمن كان من غير نظر إلى الثمن الأول وهي البيع المعتاد. 269
وهي: أن يشتري الرجل سلعة بثمن معلوم، ثم يبيع تلك السلعة لرجل آخر بالثمن (الأول) الذي اشتراها به. 270
وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح. 271
هو تمليك المبيع بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه. 272 أي أن يبيع البائع السلعة بثمن أرخص من الثمن الأول.
هو بيع العين بالدين وهو أن يبيع البائع السلع بالأثمان المطلقة، وهي الدراهم والدنانير، وبيعها بالفلوس النافقة وبالمكيل الموصوف في الذمة، والموزون الموصوف والعددي المتقارب الموصوف. 273
هو بيع العين بالعين، كبيع السلع بأمثالها، نحو: بيع الثوب بالعبد وغيره، فهو بيع السلع بالسلع. 274
هو بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة أي: أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل. 275
هو بيع الثمن بالثمن، جنسا بجنس كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، أو بغير جنس، كبيع الذهب بالفضة. 276
المضاربة هو عقد على الشركة بمال من أحد الشريكين وعمل من الآخر. 277 أي أحدهما يدفع ماله إلى الآخر وهو يعمل فيه ويشتركان في النفع على ما رضيا.
الشركة عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو عمل.
صورة الاستصناع هي أن يقول إنسان لصانع- من خفاف أو صفار أو غيرهما-: اعمل لي خفًا، أو آنيةً من أديم أو نحاس، من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته، فيقول الصانع: نعم. 278
فالنظام الاقتصادي الإسلامي لا يحث الناس على كسب الثروة وطلب الرزق بشكل جائز فحسب، بل يدعوهم إلى إشراكه في الثروة إخوانهم وأخواتهم وعائلته كلها، ليكون ذلك له نجاحًا في الدنيا ونجاةً في الآخرة، فأسس الإسلام نظامًا اقتصاديًا يسمع كل المناهج والأساليب والواسائل الاقتصادية لإنتاج الثروة واستثمارها، وهي الطرق التي تضمن للإنسان فلاحًا دنيويًا وأخرويًا، وسد كل أبواب الطمع والحرص، وأبواب الضرر والغرر، وأبواب الظلم والعدوان، ووجه التعاملات كلها إلى الصدق والأمانة، والعدل والإنصاف، و إلى الفلاح الدنيوي والأخروي، و إلى تيسير الأمور البشرية، كأن هذا النظام الاقتصادي نموذج مثالي لكل أمة وملة، ولجميع المجتمعات والطبقات في كل زمان ومكان حيث لو تمسك بذيله الإنسان لسلك مسلك الفلاح والنجاح، ومسلك التطوير والتقديم في الدنيا والآخرة.
لم يكن للعرب معرفة بشرع ولا بدستور يحكمهم ويشرع لهم أصول الحياة الاجتماعية، بل كان الشارع عندهم الأشراف والرؤساء الذين لهم قوة وبطشة، وذلك كان نظامًا قبليًا يحكمون به مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وكانت آنذاك قوانين متميزة، للرجل الشريف قانون وللعامي الضعيف آخر.
ثم جاء الإسلام وهدم أنظمة قبلية ووحدات عصبية، وصرف التفاضل بشرف القبيلة أو شرف الجنس إلى كلمة الإسلام، وأعلن أن المسلمين كلهم كتلة واحدة، لا تفاضل بين أفرادها إلا بطاعة اللّٰه وتنفيذ أمره. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ . 279 إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّٰه أَتْقَاكُمْ . 280 وأتى الإسلام بشريعة غراء، سمحة بيضاء، ونفذت هذه الشريعة في أسرع وقت حتى ذاعت صيتها في الأطراف والأقطار، وطارت سمعة عدل الإسلام في كل أرجاء المعمورة، فبدأت القبائل والبلاد والإمارات تنضم في الخلافة الإسلامية وتفتخر بالانتماء إلى الشريعة الإسلامية. والإسلام قد منح شريعةً جامعةً يبتني أساسها على كتاب اللّٰه وسنة رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم، والشريعة الإسلامية قائمة على أن اللّٰه تعالى هو الحاكم المطلق الأعلى، والرسول صلى اللّٰه عليه وسلم شارح ومبين لما أنزله من الأحكام، ثم جاء الأئمة الفقهاء والمجتهدون، ودونوا تلك الأحكام بشكل شرعي إسلامي وشرحوها في ضوء القرآن والسنة.
إن الشارع الحقيقي في الإسلام هو اللّٰه عز وجل، قال اللّٰه تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ57. 281 وقال عز وجل: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ 13 . 282 وأيضًا قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ . 283 ولتبيين شرعه وتبليغه إلى الناس بعث رسله، وآخر من بعثه منهم محمد صلى اللّٰه عليه وسلم؛ ليبين للناس الشرع الإسلامي ويوضحه ويفسره وأنزل عليه القرآن. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّٰه وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا105. 284 والرسول صلى اللّٰه عليه وسلم ناطق بما أمره اللّٰه ومبلغ ومبين لما يوحى إليه. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ 4 . 285 فالرسول صلى اللّٰه عليه وسلم باعتبار أنه هو المبين الشارح لما شرعه اللّٰه لعباده من الأحكام شارع أيضًا، فلا مضايقة في إطلاق كلمة الشارع على اللّٰه تعالى أو على رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم.
لا شك أن الشريعة الإسلامية الحنيفة منزهة عن كل العيوب والنقائص التي تتواجد في شرع وضعه الناس للمصالح البشرية. والشريعة الإسلامية هي مجمع قوانين ودساتير عرفت الناس على الفلاح الحقيقي بشكل عملي جامع، وذلك فإن مصدر الشرع الإسلامي هو القرآن والسنة لا الفكر البشري الناقص. أما القرآن فقال اللّٰه عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّٰه وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا105286وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ 89287 ولتبيينه وتفسيره بعث رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 44288وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ 289 وهذا التبيين والتفسير هو السنة النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات، وهو المصدر الثاني، وأيضًا قال اللّٰه تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا 290قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّٰه غَفُورٌ رَّحِيمٌ 31291 بناءً على ذلك فإن السنة هو المصدر الثاني، فالكتاب والسنة هما مصدران أصليان للتشريع الإسلامي، وهناك مصدران فرعيان آخران وهو الإجماع والقياس.
أما الإجماع فقال اللّٰه تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 115292 قال العلماء: هذه الآية دالة على صحة القول بالإجماع. 293 أي: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى اللّٰه عليه وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي؛ لأنه تعالى قرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة؛ لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين. وأما القياس فهو حجة شرعية وأصل فرعي، والأصل فيه قول اللّٰه تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ 2294 وحديث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، عن رجال من أصحاب معاذ رضي اللّٰه عنه، أن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن فقال: (( كيف تقضي؟ )) قال: أقضي بكتاب اللّٰه. قال: (( فإن لم يكن في كتاب اللّٰه )) قال: فبسنة رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم. قال: (( فإن لم يكن في سنة رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم )) قال: أجتهد رأيي. قال: فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( الحمد لله الذي وفق رسول رسول اللّٰه)). 295 ومعلوم أن القياس هو الاجتهاد.
لما هاجر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إلى المدينة المنورة فجعلها مركزًا أو عاصمة للدولة الإسلامية، وكتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادَع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم، ونصه:
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، (ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار: بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت، إلى أن قال:) و إن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، و إن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، و إن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، و إن ذمة اللّٰه واحدة يجير عليهم أدناهم، و إن المؤمنين بعضعم موالي بعض دون الناس، و إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، و إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّٰه إلا على سواء وعدل بينهم، و إن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، و إن المؤمنين يبئ بعضهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل اللّٰه، و إن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، و إنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن، و إنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول، و إن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن باللّٰه واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، و إنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة اللّٰه وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، و إنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى اللّٰه عزوجل و إلى محمد صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، و إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، و إن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، و إن بطانة يهود كأنفسهم، و إنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على ثأر جرح، و إنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، و إن اللّٰه على أبر هذا، و إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، و إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، و إن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، و إنه لم يأثم امرؤ بحليفه، و إن النصر للمظلوم، و إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، و إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، و إنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، و إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى اللّٰه و إلى محمد رسول اللّٰه، و إن اللّٰه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، و إنه لا تجار قريش ولا من نصرها، و إن بينهم النصر على من دهم يثرب، و إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، و إنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وvإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، و إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، و إن اللّٰه جار لمن بر واتقى. 296
إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة و إن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل اللّٰه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى اللّٰه عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك اللّٰه السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد اللّٰه سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث اللّٰه بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. 297
إن إقامة الحدود في الشريعة الإسلامية ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل وتحصل الطمأنينة، والحدود رحمة من اللّٰه ونعمة على الجميع، وهي للمحدود ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي. قال اللّٰه تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ 123وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا . 298 فالعقوبات مشروعة في الشريعة الإٍسلامية لعدة أهداف ومقاصد، منها: زجر الناس وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع من الفساد، ومنع وقوع الجريمة أو تكرارها، وإصلاح الجاني وتهذيبه لا تعذيبه، وقطع دابر الجريمة، وعدم إشاعة الفاحشة، ومنع عادة الأخذ بالثأر التي توسع رقعة انتشار الجريمة، و إطفاء نار الحقد والغيظ المضطرمة لدى المعتدى عليه أو أقاربه، وحصول الأمن وتحقيق العدل في شعب الحياة كلها.
إن الزنا حرام في الإسلام وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك والقتل. وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّٰه إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا 68 يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا 89299 والزنا عقوبة كبيرة وجريمة فحشاء توجب الحد في الإسلام، ويتفاوت إثم الزاني وحده بحسب موارده.
فإن ثبت الزنا بشهود صادقين عند القاضي وكان الزاني حرًا محصنًا رجم حتى الموت، رجلًا كان أو امرأةً، بدليل الآية المنسوخة لفظًا لا حكمًا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّٰه واللّٰه عزيز حكيم. عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما قال: قال عمر: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول القائل: ما نجد الرجم في كتاب اللّٰه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّٰه: ألا و إن الرجم حق إذا أحصن وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتة، رجم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ورجمنا بعده. 300 والرجم حد الزاني المحصن الثيب قرره الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم. 301 الرجم وهو الرمي بالحجارة والقتل بها. 302 أما المرأة إذا كانت حاملًا بالولد فترجم بعد أن تضعها كما حدث في زمن الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم. 303
و إن كان الزاني بكرًا رجلًا كان أو امرأةً، ضرب مئة جلدة أمام ناس يشهدون ذلك ليتعظوا وينزجروا عنه؛ لقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰه إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ2. 304
إن كانت المرأة مكرهة على الزنا وليس لها مأوى فرجم الرجل حتى الموت، ولا يعاقب المكرَه في صورة الإكراه، أما المكرِه فيرجم، وذلك تعزيرًا لا حدًا، ولا عبرة في ذلك للإحصان وغيره، روي عن وائل الكندي أن امرأةً خرجت على عهد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم تريد الصلاة، فتلقاها رجل فتجللها، فقضى حاجته منها فصاحت فانطلق، ومر عليها رجل فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، ومرت بعصابة من المهاجرين فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها وأتوها. فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها فقال: يا رسول اللّٰه، أنا صاحبها. فقال لها: (( اذهبي، فقد غفر اللّٰه لك )). وقال للرجل قولًا حسنًا. وقال للرجل الذي وقع عليها: (( ارجموه )). 305
اللواط أو اللوطية إذا أتى رجل رجلًا، ودخل به، فيعزر الفاعل والمفعول به كلاهما أشد تعزير، ويجوز قتلهما تعزيرا. روي عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قال: (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به )). 306 وأما السحاق فهو إتيان المرأة المرأة، وهو حرام بلاشك، وهو من الكبائر أيضًا، واتفق الفقهاء على أنه لا حد في السحاق؛ لأنه ليس زنى، و إنما يجب فيه التعزير؛ لأنه معصية. 307
إن الزنا في الشريعة الإسلامية لا يثبت إلا بشهادة أربعة شهود شهدوا أنهم رأوهما يزنينان، كان ذكر الرجل في فرج المرأة كالميل في المكحلة، فإن لم تكن الشهود أربعة أو أحدهم كذب أو كلهم كذبوا فيحد عليهم حد القذف، وهو ثمانون جلدةً وعدم قبول شهادتهم إلى الأبد. قال اللّٰه تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4. 308
السرقة حرام، وهي أخذ مال محترم لغيره على وجه الاختفاء. 309 والسارق رجلًا كان أو امرأةً تقطع يده فإن عاد قطعت رجله، فإن عاد قطعت يده الأخرى، فإن عاد قطعت رجله الأخرى، بدليل قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّٰه وَاللّٰه عَزِيزٌ حَكِيمٌ 38. 310 والقطع يكون على مال كبير لا على كل شيء خسيس رخيص من ملح وتراب وأحجار ولبن وكلأ وغير ذلك.
شرب الخمر جريمة شنعاء، وكبيرة من الكبائر، وحرام مغلظ، يجب الاجتناب والبعد عنه؛ لقول اللّٰه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّٰه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91. 311 واتفق الأئمة على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد، ثابتًا بالسنة، فقد روي عن أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه أن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر، فأمر به فضرب بجريدتين نحوًا من أربعين، ثم صنع أبو بكر مثل ذلك، فلما كان عمر، استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون، ففعل ذلك. 312 فحد شرب الخمر في الشريعة الإسلامية ثمانون جلدة.
كانت عقوبة القاتل قبل الإسلام متعددة الأنواع، فعند اليهود القصاص، وعند النصارى الدية، وعند عرب الجاهلية تشيع عادة الأخذ بالثأر، فيقتل غير القاتل، وقد يقتلون رئيس القبيلة، أو أكثر من واحد من قبيلة القاتل، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرًا وبالعبد حرًا، ثم قرر الإسلام أخذا بالعدل والمساواة عقوبة القصاص؛ لأنها تزجر الناس عن ارتكاب جريمة القتل، وما تزال هذه العقوبة هي الزاجرة في عصرنا الحاضر؛ إذ أن السجن لا يزجر كثيرًا من المجرمين سفاحي الدماء، وتشريع اللّٰه هو الأعدل والأحكم والأسد؛ لأن اللّٰه أعلم بما يصلح الناس، وبما يربي الأمم والشعوب، وأباح الشرع أخذ الدية بدلا عن القصاص. 313 حيث قال اللّٰه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 179. 314 فشرع اللّٰه تعالى كلا الأمرين: القصاص أو الدية، والقاتل لنفس مأمونة إن كان عن العمد فالخيار لورثة المقتول، إما أن يطلبوا القصاص فيقتص منه القاضي أمام الناس، و إما أن يعفوا عنه فيأخذوا الدية، والدية هي مئة من الإبل إن عفا عن القاتل ورثة المقتول. قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( من قتل مؤمنًا متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا و إن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً، وما صالحوا عليه فهو لهم )). 315 وذلك لتشديد العقل.
هذا إذا كان القتل عن عمد. أما إذا كان عن خطأ فعقوبته شيئان: تحرير رقبة مؤمنة أي: عتق نفس مملوكة، ودية مدفوعة إلى أهل القتيل. وذلك في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَ إِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّٰه ۗ وَكَانَ اللّٰه عَلِيمًا حَكِيمًا 92. 316 فقد ثبت في هذه الآية كلا الأمرين وجوبًا، أما الواجب الأول وهو تحرير الرقبة فهو كفارة لما ارتكب من الذنب العظيم و إن كان خطأ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة. وأما الواجب الثاني وهو الدية: فتجب عوضًا عما فات أهل القتيل من قتيلهم، وهي كما ثبت في السنة مئة من الإبل، ودية المرأة نصف دية الرجل؛ لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. 317 وتدفع الدية بحسب رأس المال الشائع عند أهلها فوضع عمر بن الخطاب رضى اللّٰه عنه الديات على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مئة من الإبل، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. 318 والأجدر بالتنبيه على أنه ليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل؛ لقول عمر رضي اللّٰه عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة. 319 وكذا المجنون.
كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين: أحدهما النسب، والآخر السبب. فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث، و إنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة. 320 ثم جاء الإسلام فأبطل عادات الجاهليين، وجعل للنساء والصغار نصيبًا من تركة الميت، وجعل لكل شخص نصيبًا، فقد تميز نظام الإسلام في تقسيم الإرث عن سائر القوانين الأرضية المعاصرة، قال اللّٰه تعالى في التنزيل العزيز: وصِيكُمُ اللّٰه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَ إِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللّٰه إِنَّ اللّٰه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 11 وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ إِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّٰه وَاللّٰه عَلِيمٌ حَلِيمٌ 12. 321
فالشريعة الإسلامية قد وضعت نظام التوريث على أحسن النظم المالية، وقد بين القرآن والسنة أحكام المواريث وأحوال كل وارث بيانًا شاملًا شافيًا، لا يدع مجالًا لأحد من البشر أن يقسم أو يحدد شيئًا من ذلك.
لم يكن في عصر ما قبل الإسلام نظام قضائي، ولا دستور رسمي، كان أشراف القبائل يحكمون الناس ويتخذون القرارت في معاملاتهم ومنافراتهم ومخالفاتهم، وكان قرارهم في كل ذلك نهائيًا لا مساغ فيه لأحد أن يتخلف أو ينكر ذلك، والإسلام منحهم نظامًا قضائيًا كاملًا شاملًا، طبقه ونفذه النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في عصره، و إقامة العدل بين الناس من وظائف الأنبياء المبعوثين عليهم الصلوات والتسليمات. لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . 322وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ . 323إِنَّ اللّٰه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90. 324 فأمر اللّٰه تعالى الأنبياء ثم المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، فإن القيام بالقسط لا بد من وجوده في كل حال وفي كل مجال، والقسط هو الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، ويتضمن العدل بين الناس، ويعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين، ففي العدل يتساوى عند اللّٰه المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء، والأغنياء والفقراء، وما من عقيدة دينية أو نظام رسمي في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المناوئين كما يكفله لهم الإسلام.
الشريعة الإسلامية أساسها القيام بالقسط والعدل بين الناس؛ فإن العدل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل، فالعدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه. 325 وهو الذي يتطلبه الإسلام من كل إنسان ساكن على وجه الأرض.
لم تكن في الجاهلية أنظمة عسكرية ولا قوانين حربية، بل كانت هناك قبائل محاربة، تغير على كل قبيلة توجهت إليها دون أية قاعدة حربية، وكانت للأشراف والرؤساء سهام خاصة من الغنائم. يقتلون النساء والصبيان والشيوخ، وكانت الجنود العسكرية يخربون البلاد ويدمرون العباد. ولما جاء الإسلام فأكد على حفظ دماء الناس وأموالهم وعيالهم في المجتمع، وكل ما كان عليه بقاء المجتمع، ولذلك جعل الإسلام تنظيمًا عسكريًا يقصد الأمن والسلام وبقاء البشرية و إعلاء كلمة اللّٰه تعالى، قال اللّٰه تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّٰه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 39. 326 ولا ريب أن الإسلام يحتاج إلى القوات المسلحة المرصوصة أشد احتياج؛ إذ يقتضي حكم الإسلام أن تكون له قوة ضاربة تتصدى للظلم والتعدى وتعلي كلمة اللّٰه وتحول دون الطغا وعسفهم وجورهم، وتضمن الأمن والسلام في الأرض، ولذلك شرع اللّٰه تعالى الجهاد في سبيل اللّٰه، وللجهاد قوانين إسلامية لا بد من رعايتها للأمير وجنوده، وأصل هذه الأصول الحربية هو حديث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، روي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم إذا أمرّ أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه خاصة بتقوى اللّٰه ومن معه من المسلمين خيرًا. ثم قال: (( اغزوا باسم اللّٰه وفي سبيل اللّٰه، قاتلوا من كفر باللّٰه، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، و إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللّٰه الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن باللّٰه وقاتلهم، و إذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللّٰه وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة اللّٰه وذمة نبيه؛ ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة اللّٰه وذمة رسوله، و إذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّٰه، فلا تنزلهم على حكم اللّٰه؛ ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم اللّٰه فيهم أم لا )). 327
في أوائل الإسلام كانت الدعوة إلى الإسلام واجبة قبل القتال، وكان الأمير يدعو الأعداء إلى الإسلام ثم إلى دفع الجزية ثم إلى السيف، واليوم تجب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال لمن لم تبلغهم الدعوة، فإن انتشر الإسلام، وعرفه الناس، فالدعوة مستحبة؛ تأكيدًا للإعلام والإنذار، عملًا بفعل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. روي عن أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حين خرج إلى خيبر، أتاها ليلًا، وكان إذا جاء قومًا بليل، لم يغر حتى يصبح، قال: فلما أصبح خرجت يهود بمساحيها، ومكاتلها، فلما رأوه، قالوا: محمد، واللّٰه محمد، والخميس. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( اللّٰه أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين )). 328 وعملًا بقول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم )). 329
التمثيل مأخوذ من المثل؛ لأن الرجل إذا شنع في عقوبته جعله ذلك مثلًا وعلمًا، نحو أن تقطع الأذن والأنف من المقتول أو الأصابع، وذلك لا يجوز في الجهاد الإسلامي، وقد نهى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم عن التمثيل بالميت، كما أخرجه البخاري عن عبد اللّٰه ابن زيد الأنصاري رضي اللّٰه تعالى عنه قال: (( نهى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم عن النهبى والمثلة )). 330 وذلك فإن المؤمن المجاهد يقاتل في سبيل اللّٰه خالصًا لوجه اللّٰه الكريم، ولا يقاتل تحقيقًا لرغباته النفسانية فلايجوز هتك الميت و إن كان عدوًا لإخماد نيران الغيظ والغضب.
السفراء هم الذين يبعثون من قبل العدو إلى الجيش الإسلامي أو عكس ذلك لإبلاغ رسالة أو توصية أو غيرهما. روي عن عبد اللّٰه بن مسعود رضي اللّٰه عنه قال: كان رسولان لمسيلمة الكذاب أتيا النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال لهما رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( أتشهدان أني رسول اللّٰه ؟)) قالا: نشهد أن مسيلمة رسول اللّٰه فقال: (( لو كنت قاتلًا رسولًا، لضربت أعناقكما )) قال: فجرت سنة أن لا يقتل الرسول. 331
لا يجوز للمسلمين المجاهدين أن ينهبوا الأموال ويخربوا البيوت ويدمروا الأثاث أثناء الحرب ولا بعدها، حتى يجب عليهم أن يحضروا جميع ما تركه الأعداء من الغنائم أمام الأمير أو قائد الجيش الإسلامي؛ ليوزعها حسب ما ذكر في الكتاب والسنة، فلا يجوز النهب في الإسلام، قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( إن النهبة ليست بأحل من الميتة )). 332 وقال صلى اللّٰه عليه وسلم: (( إن اللّٰه عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم )). 333
لا يجوز للمسلمين أن ينقضوا العهد مع الذي تعاهدوا معهم؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ . 334 وقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: (( لكل غادر لواء يوم القيامة، فيقال هذه غدرة فلان )). 335 و إذا خافوا من الكفار الخيانة ونقض العهد بأن ظهر من قرائن خارجية ما تدل على خيانتهم وغدرهم، فأيضًا لايغدر بهم المسلمون ولا ينقضون العهد معهم دون إخبارهم، بل يخبرونهم بعدم استمرار العهد بين الطرفين؛ لقوله تعالى: وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللّٰه لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ 58. 336
أمر الإسلام بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم وعدم إيذائهم، والتعرض لما يجرح كرامتهم، تعدت صور المعاملة الحسنة للأسرى فشملت العفو أو المعالجة من الأمراض، أو غير ذلك من صور المعاملة الحسنة. قال اللّٰه تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8. 337
ملخص الكلام في هذا المقام أن الإسلام يضاد الجاهلية قديمةً كانت أو حديثةً، فإن الإسلام عبارة عن الانقياد لأوامر اللّٰه ونواهيه، وإطاعة اللّٰه ورسوله صلى اللّٰه عليه وسلم، والسعي لإعلاء كلمة اللّٰه تعالى في العالم، والإسلام دين متكامل شامل، ليس هناك جانب من الحياة البشرية إلا وللرسول صلى اللّٰه عليه وسلم فيه سنة متبوعة، فيجب على عامة الناس وعلى المسلمين بشكل خاص أن يعيشوا حياةً دينيةً إسلاميةً؛ لتكون لهم طمأنينة قلبية في الدنيا وسعادة في الآخرة.
الإسلام دين فطري جامع، وهو عقيدة قبل أن يكون شريعة، ومبناه على عقيدة التوحيد، والأساس المهم للحضارة الإسلامية التي أقامها الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في المدينة المنورة، هو الإيمان بوحدانية اللّٰه سبحانه وربوبيته وألوهيته، ومازالت تتنور الحضارة الإسلامية بنور الإيمان باللّٰه ورسوله صلى اللّٰه عليه وسلم، وبذلك اهتدى المؤمنون إلى التطورات الحضارية أخلاقيةً واجتماعيةً واقتصاديةً وسياسيةً، علميةً وعمليةً، ماديةً وروحانيةً، حتى اعترفوا بتعظيم الأحكام الإلهية واتبعوها في جميع شؤون الحياة، والإسلام أنقذ البشرية قاطبةً من الضلال الفكري والعلمي، ومن الجهل والجاهلية. والتعاليم الإسلامية المبنية على نظرية التوحيد نقحت وهذبت جميع المجتمعات البشرية المثقفة وغيرها من العيوب والنقائص وأرشدتها إلى الصراط المستقيم، وقد قدم الإسلام لتكوين الأفراد والمجتمعات والحكومات خطةً عمليةً محتويةً على قوانين ودساتير جامعة، وليس الإسلام نفس عقيدة فقط، بل وضع هيكله في مختبر الحياة البشرية، وهو عصر الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين المهديين.
إن الإسلام دين المساواة، يدعو إلى المساواة والأخوة البشرية وعدم التفاضل بالأحساب والأنساب، أو بالجاه والسلطان، أو بالقومية الشعوبية، أو بالفقر والثروة، والإسلام ليس دينًا لقوم ولا لقبيلة ولا لبلد، ولا لمكان دون آخر، وليس محدودًا بزمن، بل إنه دين عالمي روحاني بمعنى الكلمة، يخاطب العقل في كل زمان ومكان، أصلح الحياة العربية أولًا ثم أصلح النفوس البشرية التي دخلت إلى أعماقها. والإسلام دين أقنع الناس على أن المصالح الدنيوية في الأعمال الدينية، وأن المصالح الأخروية في الأعمال الدنيوية إذا كانت صحيحةً مشروعةً. والإسلام دين البساطة والفطرة، لا يسمح للتبذير والإسراف، ولا للترفه والتصنع، ولذلك لم تهجر بساطة الإسلام في العصر النبوي على صاحبه آلاف التحيات والتسليمات مع كل التطورات العلمية والعملية، والفكرية والنظرية. والإسلام دين الطهارة والنظافة، دين يهتم اهتمامًا كبيرًا بالطهارة ويأمر المسلمين بالنظافة الباطنية والظاهرية، المعنوية والمادية، القلبية والبدنية، فيجب أن يكون المسلم طاهر العقيدة عن الإشراك وطاهر العمل عن الرياء.
إن الإسلام دين العدل والعفو، دين جعل الإنسان خليفة اللّٰه في الأرض، وجعل الناس متساوين فيما بينهم تعظيمًا وتكريمًا، لا فوقية لأحد على الآخر، كلهم خلائق اللّٰه تعالى، فلا يجوز الظلم والعدوان على أحد من الناس. والإسلام أحدث ثورةً دينيةً كاملةً في الحياة البشرية، في الإيمانيات والمعتقدات، في العادات والعبادات، في الآداب والمعاملات، في الأفكار والأنظار، في مفهوم التوحيد والعلم، حيث أرشد الناس إلى عبادة اللّٰه ضمن اتباع النبي صلى اللّٰه عليه وسلم؛ لتكون لهم السعادة والفوز في الدارين. والإسلام دين الأمن والسلام، والسلام هو غاية الإسلام في الأرض، والإسلام دين التسامح والمحبة، دين يضم جميع الفضائل الاجتماعية والمحاسن الإنسانية.
إن اللّٰه تعالى جعل الإسلام امتدادًا وتكميلًا للشرائع السماوية السابقة، وقضاءً على الشرائع الأرضية الباطلة، وارتضاه دينًا للبشرية جمعاء، من زمن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم إلى قيام الساعة، فلا يوجد فوق الثرى دين حق سوى دين الإسلام، فهو آخر الأديان، والشارع صلى اللّٰه عليه وسلم نبي آخر الزمان، لا نبي بعده، ولا رسول بعده، لا دين بعد دينه، ولا أمة بعد أمته، ولا حياة لأمة الإسلام إلا به، ولن يعيد لها عزها وكرامتها إلا صدق تمسكها بالإسلام، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوله، ألا إن الإسلام آخر ما ينقذ الإنسان من الهلاك والدمار، آخر ما ينجيه من عذاب الجحيم، آخر ما يوصله إلى نعيم الجنة، ألا وحدوا اللّٰه، وحققوا إيمانكم باللّٰه العظيم، وبمحمد خاتم النبيين صلى اللّٰه عليه وسلم، عسى أن تكونوا بالجنة فائزين، ومن الجحيم ناجين.