وقعت غزوة بني لحيان سنة ست من الهجرة لغرة هلال شهر ربيع الأول، وعند ابن إسحاق: في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح قريظة. 1 وكانت حملية عسكرية ثأرية قادها الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، قاصدا إلى بني لحيان، مطالبا بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وأصحابهما، الذين قتلهم بنو لحيان غدرا وخيانة. 2
كانت وراء غزوة بني لحيان خلفية مؤلمة وحادثة مفجعة، وهي وقعة الرجيع، ذلك أن بعض القبائل العربية وفدوا على النبي صلى اللّٰه عليه وسلم يطلبون دعاة الصحابة وقرائهم؛ ليعلموهم الإسلام والقرآن، فبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم معهم ستة رجال من كبار الصحابة، فغدرت بهم بنو لحيان عند ماء الرجيع، واغتالوا أربعة منهم، وباعوا الإثنين الباقيين لقريش، فضربوا عنق أحدهما وصلبوا الثاني. 3 وذلك قبل عامين من غزوة بني لحيان، أي: في السنة الرابعة من الهجرة. فلما أخبر النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بغدرهم تألم أشد الألم لفقد أولئك البررة الأعزاء عليه، وخاصة أنهم قتلوا بطريقة تمثل أحط أنواع الخيانة والغدر. وكان النبي صلى اللّٰه عليه وسلم راغبا كل الرغبة في تأديب تلك القبائل الخائنة الغادرة، والاقتصاص منها لأولئك الشهداء من القراء الأبرار المغدور بهم، إلا أن الظروف في تلك السنة- وهي السنة الرابعة من الهجرة- كانت غير مواتية لتحقيق هذه الرغبة، حيث كان النبي صلى اللّٰه عليه وسلم مشغولا بدفع الأخطار الجسام التي تهدد الإسلام والمسلمين في عقر دارهم من الداخل والخارج، لا سيما مؤامرات اليهود الخطيرة التي يدبرونها للإطاحة بالمسلمين. 4
لما تخاذلت الأحزاب، وانكسرت عزائمهم سنة ست من الهجرة، رأى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أن الوقت قد حان لغزو بني لحيان وأخذ الثأر لأصحاب الرجيع. 5 وقد كانت ديار بني لحيان من هذيل، تبعد عن المدينة أكثر من مائتين من الأميال، وهي مسافة بعيدة، يلاقي مشاق كبيرة كل من يريد قطعها وخاصة إذا كان غازيا، ولكن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم لم يبال بذلك، فقد كان حريصا كل الحرص على الاقتصاص لأحبابه من الصحابة الذين استشهدوا غدرا على يد هذه القبائل المتوحشة التي لا تقيم للعهود والمواثيق اعتبارا. 6 فخرج إليهم الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم طالبا بدماء أصحابه في مائتين من أصحابه، ومعهم عشرون فرسا. 7 فنزل بمضرب القبة من ناحية الجرف، فعسكر في أول نهاره وهو يظهر أنه يريد الشام. 8 ثم سلك على غراب ثم على محيص ثم على البتراء، ثم صفق ذات اليسار، فخرج على بين ثم على صخيرات الثمام، ثم استقام به الطريق على السيالة، فأخذ السير سريعا حتى نزل بطن غران، وبينها وبين عسفان خمسة أميال حيث كان مصاب أصحابه. 9
لما وصل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم إلى موضع أصيب فيها الصحابة القراء، فوجد بني لحيان قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فترحم على أصحاب الرجيع ودعا لهم واستغفر، وأقام هناك يوما أو يومين يبعث السرايا في كل ناحية، فلم يقدروا على أحد. 10
بعد أن أقام النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في أرض بني لحيان يوما أو يومين، سار صلى اللّٰه عليه وسلم بأصحابه إلى عسفان؛ لتسمع به قريش فيداخلهم الرعب، وليريهم من نفسه قوة، فبعث أبا بكر الصديق رضي اللّٰه عنه في عشرة فوارس إلى كراع الغميم، ثم رجع أبو بكر الصديق رضي اللّٰه عنه، ولم يلق أحدا. 11 فانصرف الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم إلى المدينة، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة. 12
كانت القبائل اللحيانية التي هاجمت على المسلمين قبل عامين وغدرت بهم، فزعت من النبي صلى اللّٰه عليه وسلم فزعا شديدا، لدرجة أنها فرت من ديارها، وتمنعت في رؤوس الجبال الشاهقة. وانسحابهم من ساحة المعركة أوضح دليل على أن المسلمين ليسوا بضعفاء، بل أصبحوا أقوياء، يستطيعون الدفاع عن عرضهم وأنفسهم، ولذلك أقام النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في ديارهم؛ لإرهابهم وتحديهم، وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة حتى إلى قلب ديار العدو متى شاؤوا. 13 ثم بعثه صلى اللّٰه عليه وسلم أبابكر الصديق مع عشرة فوارس إلى كراع الغميم في الحقيقة رسالة واضحة إلى قريش؛ لتظهر عليهم قوة المسلمين، وأن المسلمين بصدد إرادتهم. 14