كان اسمها مارية بنت شمعون. 1 القبطية، أي تنتمي إلى القبط، من حفن من كورة أنضاء، ناحية من نواحي مصر. 2 أهداها للنبي صلى اللّٰه عليه وسلم المقوقس صاحب إسكندرية. 3 وكانت هي أم إبراهيم، ابن سيد البشر محمد صلى اللّٰه عليه وسلم. 4
بعد أن وقع صلح الحديبية أرسل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم رسله وسفرائه إلى ملوك الدول ورؤساء الإمبراطوريات، بما فيهم هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارس الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، ونجاشي الحبشة، يدعوهم إلى الإسلام، فصنع له خاتم من فضة نقش عليه "محمد رسول اللّٰه". 5 فأمر حاطبا بن أبي بلتعة رضي اللّٰه عنه أن يذهب إلى ملك الإسكندرية. 6 فـأرسله إليه بكتاب فيه: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد اللّٰه رسول اللّٰه، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللّٰه أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط...الخ. 7 فأكرم المقوقس سفيره وأعزه ووقره، ثم أحضره وقال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبيا؟ قال حاطب: قلت: بلى، هو رسول اللّٰه، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلدته؟ قال: فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول اللّٰه؟ فما له حيث أراد قومه صلبه لم يدع عليهم حتى رفعه اللّٰه؟ فقال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم. 8 ثم جرى بينهما التحادث عن صفة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فعرف المقوقس أنه نبي اللّٰه حقا، لكنه لم يعتنق الإسلام، ولم يطاوعه علنا؛ مخافة أن يطرده القبط، يقول حاطب: فرجعت من عنده، وقد كان لى مكرما فى الضيافة، وقلة اللبث ببابه، ما أقمت عنده إلا خمسة أيام، وإن الوفود، وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر. قال: فذكرت قوله لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم فقال: (( ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه )). 9
فالمقوقس وإن لم يقبل الإسلام، لكنه عامل مع رسول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم وكتابه معاملة حسنة، بكل أدب واحترام، وأهدى للنبي صلى اللّٰه عليه وسلم مارية القبطية، ومعها أختها سيرين، وأهدى معها المقوقس أيضا غلاما خصيا، اسمه مأبور، وبغلة تسمى دلدل، وقدحا من قوارير كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يشرب فيه. 10 ولما خرج حاطب بمارية، عرض عليها الإسلام، فأسلمت وأسلمت أختها. 11 وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم معجبا بمارية؛ لأنها كانت بيضاء جميلة. 12 وكانت جعدة الشعر، أمها رومية. 13
قدم حاطب بن أبي بلتعة رضي اللّٰه عنه إلى المدينة المنورة بالجاريتين الأختين اللتين أهداهما المقوقس للنبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فأحضرهما عند النبي النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وقص عليه الخبر، فاتخذ النبي صلى اللّٰه عليه وسلم مارية جارية له، ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت رضي اللّٰه عنه. 14 فأخذت مارية تعيش تحت كنف النبي صلى اللّٰه عليه وسلم عيشا مرضيا، وهي مؤمنة مخلصة، وقد أراد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أن يعتقها ويزوجها إلا أن قوله جل وعلا قد سبق هذا الأمر نزولا، لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا 5215 فطابت نفسها على ملك اليمن، وأنزلها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالعالية في المال الذي يعرف بمشربة أم إبراهيم، وكان يختلف إليها هناك، وضرب عليها الحجاب، وكان يطؤها، فحملت وولدت. 16
اعتنى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بمارية القبطية اعتناء بالغا أيام حملها بإبراهيم، ولما قرب موعدها فدعا لها سلمى امرأة أبي رافع، فكانت هي قابلته. 17 ومارية آنذاك كانت بالعالية في المال الذي يقال له اليوم "مشربة أم إبراهيم" بالقف، وكان ميلاده في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة. 18 فلما ولدته جاء أبو رافع زوج سلمى مولى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فبشر بولادتها غلاما سويا، فوهب له عبدا. 19 وقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بعد ولادة ابنه إبراهيم رضي اللّٰه عنه: (( أعتقها ولدها )). 20 وفي رواية: أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حين ولدت له مارية ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شيء حتى نزل جبريل عليه السلام، فقال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم. 21 وعق عنه النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض. 22
اختار النبي صلى اللّٰه عليه وسلم لرعاية وعناية وتربية ولده إبراهيم أم بردة رضي اللّٰه عنها، فاهتمت به بكل ما بوسعها بضعة شهور، حتى مرض إبراهيم، فنقلوه إلى بستان النخل الذي بقرب من مشربة أم إبراهيم، ولما اشتد مرضه فأخبروا النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فجاء صلى اللّٰه عليه وسلم معتمدا يده على عبد الرحمن بن عوف؛ لشدة ألمه، فحمل صغيره من حجر أمه، وهو يجود بنفسه، ووضعه في حجره محزون القلب ضائع الحيلة، تذرف عيناه، فقال في أسى وتسليم: (( يا بني! ما أملك لك من اللّٰه شيئًا )). 23 ثم انتقل إبراهيم إلى رحمة اللّٰه، وبكى النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال عبد الرحمن: يا رسول اللّٰه، تبكي، ألم تنه عن البكاء؟ فقال: (( إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لعب ولهو، ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب ورنة شيطان، وهذا رحمة ومن لا يرحم لا يرحم، يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية لا بد منها حتى يلحق آخرنا أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب )). 24
فغسله الفضل بن عباس رضي اللّٰه عنهما، ورسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم جالس. 25 ثم حمل من بيت أم بردة على سرير صغير، وصلى عليه رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم بالبقيع. 26 ونزل في قبره الفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وجلس رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم على شفير القبر، قال الزبير: ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة. 27 فودعت مارية ابنه إبراهيم وقالت ما تعلمت من رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم:... إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ 15628
حزنت مارية القبطية رضي اللّٰه عنها على ابنها حزنا شديدا، لكنها صبرت صبرا جميلا، فبدأت تعيش كما كانت حتى أن أحزنها خبر فاجئ، وهو خبر فراق النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، ثم صبرت على قدر اللّٰه وقضائه، فاعتدت ثلاث حيض، وكان أبو بكر رضي اللّٰه عنه ينفق عليها حتى توفي، ثم كان عمر رضي اللّٰه عنها ينفق عليها حتى توفيت في خلافته. قيل: توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول اللّٰه في المحرم سنة ست عشرة من الهجرة فرؤي عمر بن الخطاب يحشر الناس لشهودها وصلى عليها، وقبرها بالبقيع. 29