زهير بن أبي سلمى أحد الشعراء الأجلاء عند العرب، كان شاعرًا عبقريًا فذًا، أحد أصحاب المعلقات، وبها زاد رفعةً وسمعةً بين أترابه وأقرانه الشعراء الفصحاء البلغاء، وكان زهير من قبيلة مزينة، بطن من مضر.
لم ينقل أحد من المؤرخين قولًا ولا رأيًا تاريخيًا عن مولده، ولا يمكن لأحد أن يتقول بقول تجاه مولده حتمًا إلا أن يقاس على حادث وقع آنذاك، ما يحدد مولده، ولقد نطلع في أوراق التاريخ على وقعة حرب داحس والغبراء، وسعى فيها سيدان من أسياد العرب، هرم بن سنان والحارث بن عوف، كلاهما من بني مرة غير مدافعين ممدوحا زهير بن أبى سلمى، وتظهر قبيلة ذبيان وعشائرها على مسرح التاريخ الجاهلى مع حرب داحس والغبراء التى نشبت بينها وبين أختها عبس، واستمرت فيما يقول الرواة نحو أربعين عامًا امتدت فيما يظن من سنة خمسمائة وثمان وستين (568) إلى سنة ستمائة وثمان (608) للميلاد. 1 وأنشد زهير قصيدة في مدح أشراف بني مرة بعد أن خمدت نيران الحرب، وفيها بيت يشير إلى أنه ابن ثمانين آنذاك، وهو:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم 2
ومعلوم أن حرب داحس والغبراء انتهت عام ستمائة وثمان للميلاد، وكان زهير آنذاك ابن ثمانين سنة، فملخصه أنه ولد قبل حرب داحس والغبراء بأربعين سنة فصاعدا، وذلك عام خمسمائة وثلاثين للميلاد.
ولد زهير في بلاد مزَينة بنواحي المدينة، إحدى قبائل مضر، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام. 3 كانوا في منازل بني عبد اللّٰه بن غطفان، ولذلك كان يذكر في شعره بني مرة وغطفان ويمدحهم. 4 وكان له في فن الشعر قدم راسخة أثرت في ولده حيث كان أكثرهم شعراء، وأكثر أفراد أسرته كانوا شعراء، قيل: لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير. 5 وكان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرًا، وخاله شاعرًا، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة. 6 وابن ابنه المضرب بن كعب شاعر، وقد عرف بأمه. 7 فكان كل من ينتمي إلى أسرته شاعرا بارعا، له شغف قلبي بالشعر والأدب، معروفا في البلاد العربية.
هو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني - من مزينة - بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. 8 وقيل: ربيعة بن رياح ابن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان ابن مزينة. 9 ومزينة أم عمرو بن أد، هي بنت كلب بن وبرة. 10 وذكر الإمام السيوطي أن رياح - بكسر الراء ثم تحتية - بن مرة بن الحارث. 11 وقيل: رياح بن قرة بن الحارث. 12 وزاد ابن عبد البر بين مازن وبين ثعلبة خلاوة. 13 وقيل: ربيعة بن رياح المزني من مزينة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، 14 بن نزار بن معد بن عدنان. 15 ذكر الحافظ ابن حجر هذا النسب في الإصابة في تمييز الصحابة. 16 ونسبه ينتمي إلى مزينة، ثم من مزينة إلى مضر، ومن مضر إلى عدنان، ولما كانت مزينة أقرب القبائل إليه فسمي مزنيا.
ذكر ابن قتيبة أن الناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه فى غطفان. 17 لكن هذا قول خطأ، رده ابن عبد البر ردا عنيفا بقوله: كانت محلتهم في بلاد غطفان، فيظن الناس أنهم من غطفان - أعني زهيرا وبنيه - وهو غلط. 18 ولذلك ذكر ابن قتيبة أيضا أنه كان من مزينة مضر. 19 والسبب في ذلك أن أباه كان من مزينة، لكنه عاش زمنا في عشيرة أخواله، ثم ولد له زهير وأولاده في منازل بني مرة وبني عبد اللّٰه بن غطفان. وبناءً على ذلك ظن بعضهم أن زهيرا غطفاني القبيلة، وهو في الحقيقة مزني النسب غطفاني النشأة والمربى، وقد صرّح ابنه كعب بهذا النسب، إذ يقول في بعض شعره ردًّا على مزرّد بن ضرار وقد عزاه إلى مزينة:
هم الأصل مني حيث كنت وإنني
من المزنيين المصفّين بالكرم 20
كنية زهير هي أبو بجير، كني باسم ابنه بجير. 21
كان أبوه ربيعة بن رياح المزني. 22 عرف بأبي سلمى، وسلمى بضم السين، وليس في العرب سلمى بالضم غيره، ورياح بكسر الراء وبعدها مثناة تحتية. 23 كان من مزينة مضر. 24 ومزينة كانت تجاور في الجاهلية بني عبد اللّٰه بن غطفان، حيث كانوا ينزلون في الحاجر بنجد شرقي المدينة، وينزل معهم بنو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان أخوال أبيه ربيعة، ويحدثنا الرواة أنه أقام فيهم زمنًا مع أمه، وحدث أن أغار مع قوم منهم على طيء، وأصابوا نعمًا كثيرًا وأموالًا، ولما رجعوا لم يفردوا له سهمًا في غنائمهم، فغاضبهم وانطلق بأمه إلى قبيلته مزينة، ثم لم يلبث أن أقبل في جماعة منها مغيرا على عشيرة أخواله، ولم يكادوا يتوسطون ديارها حتى تطايروا راجعين، وتركوه وحده، فأقبل حتى دخل في أخواله، ولم يزل فيهم حتى توفي، ومن ثم ولد له زهير وأولاده في منازل بني مرة وبني عبد اللّٰه بن غطفان، ويظهر أن ربيعة لم يعش طويلًا في عشيرة أخواله، ويقول الرواة إن امرأته تزوجت من بعده أوس بن حجر الشاعر التميمي المشهور. 25
قضى زهير أيام صغره في عشيرة أخوال أبيه، ولما تزوجت أمه بأوس بن حجر ذهب إلى خاله وتربى عند بشامة بن غدير. وهنا يلمع في حياة زهير اسم خاله بشامة بن الغدير، فقد كفله هو وإخوته، وعرف منهم سلمى والخنساء، قال ابن الأعرابي: وكان بشامة بن الغدير خال زهير بن أبي سلمى، وكان زهير منقطعًا إليه، وكان معجبًا بشعره، وكان بشامة رجلًا مقعدًا ولم يكن له ولد، وكان مكثرًا من المال، ومن أجل ذلك نزل إلى هذا البيت في غطفان لخئولتهم. 26 ولم يرث زهير عن خاله شعره وماله فقط، بل ورث عنه خلقه الكريم. 27 وهو زاد إذا تزود به الرجل يميزه بين أقرانه وأصدقائه، وكان زهیر شاعرًا مجيدًا كما كان سيدًا شريفًا ثريًا. يقول ابن سلام: وكان زهير كثير المال، وكان ممن فقأ عين بعير فى الجاهلية، وكان الرجل إذا ملك ألف بعير فقأ عين فحلها. 28
كانت حياة زهير حافلة بالحوادث الكارثية، فقد عاش في ظلال السيوف والرماح، وعاش في خلال هذه الحروب التي نشبت بين عبس وذبيان، حروب داحس والغبراء، وقد أسهمت عشيرة أخواله في تلك الحروب وصليت نارها، وأيضًا فإنها صليت نيران حروب أخرى كانت تنشب بينها وبين بعض العشائر الذبيانية، وفي شعر خاله بشامة ما يصور تلك الحروب الأخيرة، فقد روى له صاحب المفضليات قصيدتين يحرض فيهما عشيرته أن لا يخذلوا حلفائهم الحرقة، وأن يقفوا معهم ضد بعض العشائر من بني سعد بن ذبيان، ومعنى ذلك أن الأيام التي عاشها زهير في عشيرة أخواله الذبيانيين لم تكن أيام استقرار وأمن، إنما كانت أيام حروب وسفك للدماء، فدائمًا تشنّ الغارات، وتجيش القلوب بالأضغان، فتسلّ السيوف وتقطع الرقاب. 29
كانت حياته عبارة عن أيام عسيرة، وأشغال صعبة، وحروب دامية، ومعارك حاسمة، وضرب وطعن، وهلاك وغرق، وقتل ونهب، ودم ودية؛ لكنه كان مشمئزا من كل هذه الحوادث والكوارث، ويطلب بدلًا عن ذلك أمنًا وسلامًا. ولذلك يمدح في قصيدته المعلقة هرم بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عوف؛ لأنهما احتملا دية المقتول من مالهما، وكان زهير بعد ذلك يكثر من مدح هرم وأبيه سنان وله فيهما قصائد غر، فحلف هرم ألا يمدحه إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه. 30 كان زهير يحب الأمن والسلام للبشرية جمعاء، ويتنفر عن الحروب والغارات.
تزوج زهير من ثلاث نساء. تزوج في بداية الأمر من امرأتين، أم أوفى وهي التى يذكرها كثيرًا في شعره، ويظهر أن المعيشة لم تستقم بينهما، فطلقها بعد أن ولدت منه أولادًا ماتوا جميعًا. والثانية التي تزوجها من بعدها هي كبشة بنت عمار الغطفانية، وهي أم أولاده: كعب وبجير وسالم، ومات سالم في حياته، ورثاه ببعض شعره. 31 قيل: طلق أم أوفى؛ لأن كبشة بنت عمار هي أم ابنيه كعب وبجير، فغارت أم أوفى من ذلك وآذته فطلقها ثم ندم. 32 وهذا دليل على أنه طلقها بعد أن تزوج بكبشة.
كانت له بنت من كبشة بنت عمار الغطفانية، وهي التي التقيت ببنت هرم بن سنان - الذي مدحه زهير ومنحه هو - عندما كانت مع أم المؤمنين عائشة رضي اللّٰه عنها، ذكر أن بنت زهير دخلت على عائشة رضي اللّٰه عنها، وعندها بنت هرم بن سنان، فسألت بنت هرم: بنت زهير: من أنت؟ قالت: أنا بنت زهير. قالت: أوما أعطى أبي أباك ما أغناكم؟ قالت: إن أباك أعطى أبي ما فني، وإن أبي أعطى أباك ما بقي. 33
أرادت بذلك أن ما قال أبي من أشعار وقصائد في مدح أبيك موجود إلى اليوم، وما أعطاه أبوك من الأموال والجوائز فإنه معدوم. وذكر أنها قالت أشعارا، وهي:
وإنّك إن أعطيتني ثمن الغنى
حمدت الّذي أعطيت من ثمن الشّكر
وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد
فإنّ الذي أعطيك يبقى على الدّهر 34
وقد صدقت فيما قالته؛ فإن أشعار أبيها وقصائده لا تزال تمثل مرحلة بارزة في التراث الجاهلي والأدب العربي. وقال عمر رضي اللّٰه عنه لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّا كنّا نعطيه فنجزل، فقال عمر: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم. 35
كان لزهير ابنان شاعران اعتنقا الإسلام، فأول من أسلم منهما كان بجير، ثم دعا أخاه إليه، وأجابه أخوه بأشعار، وهي:
ألا أبلغا عني بجيرًا رسالة
فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا؟
فبين لنا إن كنت لست بفاعل
على أي شيء غير ذلك دلكا
سقاك بها المأمون كأسا روية
فأنهلك المأمون منها وعلكا 36
فكتب بجير إلى كعب يخبره بأن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قتل رجلا ممن كان يهجوه، وأنه لم يبق من الشعراء الذين كانوا يؤذون النبي صلى اللّٰه عليه وسلم إلا ابن الزّبعرى السهمي وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، وقد هربا منه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فاقدم عليه، فإنّه لا يقتل أحدًا أتاه تائبًا، وإن أنت لم تفعل فانج بنفسك، فلمّا ورد عليه الكتاب ضاقت عليه الأرض برحبها، وأرجف به من كان بحضرته من عدوّه، فقال قصيدته التى أوّلها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
وفيها:
نبئت أن رسول اللّٰه أوعدني
والعفو عند رسول اللّٰه (صلي اللّٰه علیه وسلم) مأمول
ثم أتى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فوضع يده في يده وأنشده شعره، فقبل توبته وعفا عنه، وكساه بردًا، فاشتراه منه معاوية بعشرين ألف درهم، فهو عند الخلفاء إلى اليوم. 37
لاشك أن ابنيه قد أسلما، إلا أن كعب بن زهير كان قد هجا النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، ففهمه بجير وخوفه، فاهتدى، فقال قصيدة شهيرة في مدح الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، يقول ابن هشام: قال قصيدته التي يمدح فيها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، كما ذكر لي، فغدا به إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حين صلى الصبح، فصلى مع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فقال: هذا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فقم إليه فاستأمنه. فذكر لي أنه قام إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول اللّٰه، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: نعم. قال: أنا يا رسول اللّٰه، كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار. فقال: يا رسول اللّٰه، دعني وعدو اللّٰه أضرب عنقه. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: (( دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا نازعا )). 38 فقبل النبي صلى اللّٰه عليه وسلم توبته وعفا عنه وكساه بردًا. 39 فاشتهرت قصيدته التي قالها في مدح النبي صلى اللّٰه عليه وسلم باسم "القصيدة البردة"، 40 وما زالت هي جمال الأدب العربي الخالص.
ليس بين أيدينا شيء واضح عن نشأة زهير سوى أنه عاش في منازل بني عبد اللّٰه بن غطفان وأخواله من بني مرة الذبيانيين، وفي كنف خاله بشامة بن الغدير. 41 وكان بشامة من أحزم الناس رأيًا، فكان قومه يستشيرونه ويصدرون عن رأيه، ولم يكن له ولد، فلما حضرته الوفاة جعل يقسم ماله في أهل بيته وأعطى زهيرًا نصيبًا منه، ويروى أنه قال له: إنى أعطيتك ما هو أفضل من المال، فقال زهير: ما هو؟ فقال له: شعري، وهو لم يرث عنه شعره وماله فقط، بل ورث عنه أيضًا خلقه الكريم. 42 وبشامة بن عمرو بن هلال المري من شعراء المفضليات، واشتهر بقصيدة له أولها:
هجرت أمامة هجرًا طويلًا 43}}وكان زهير قبل ذلك قال الشعر، وقد كان أول ما قال، فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتد به علي؟ فقال بشامة: ومن أين جئت بهذا الشعر! لعلك ترى أنك جئت به من مزينة، وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان، ثم لي منهم، وقد رويته عني، وأحذاه نصيبًا من ماله ومات. 44 ولعله أخذ الشعر قبل ذلك عن أوس بن حجر التميمي، فإنه روى زهير شعره حتى أجاد نظمه. 45 وأوس بن حجر بن مالك التميمي، أبو شريح، شاعر تميم في الجاهلية، أو من كبار شعرائها -في نسبه اختلاف بعد أبيه حجر- وهو زوج أمّ زهير بن أبي سلمى، وكان كثير الأسفار. 46
لا شك أنه أخذا حظا وافرا في الشعر من غطفان، وفيهم من بشامة بن غدير، وهذا أمر بين، ولكن مع ذلك كان يتأهل للشعر منذ صغر سنه.}}اتفق العرب على أن زهيرًا كانت له قدم راسخة في الشعر الجاهلي والأدب العربي، ويعدونه من طبقة الشعراء الأولى. وأجمع المؤرخون على تفوقه وتقدمه في الشعر والأدب، إلا أنهم يختلفون في أشعرهم وأعظمهم منزلةً. وبصرف النظر عن هذا الخلاف يتفوق زهير بن أبي سلمى على أقرانه بخصائل خاصة. روي أن عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه قال: أنشدوني لأشعر شعرائكم. قيل: ومن هو؟ قال: زهير. قيل: وبم صار كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين القول، ولا يتّبع حوشىي الكلام، ولا يمدح الرجل إلّا بما هو فيه. 47
كان زهير أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء. وإنما اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه. وأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني. 48 فمن قدم زهيرا قال: كان أحسنهم شعرًا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغةً في المدح، وأكثرهم امتثالًا في شعره. ولزهير شعر سبق به غيره، فأخذه الشعراء منه وضمنوه شعرهم، وقد ذكر العلماء أمثلة على ذلك، ويروى أن لزهير سبع قصائد نظم كلًا منها في عام كامل، ومن ثم سميت: الحوليات. 49
كان زهير شديد العناية بتنقيح شعره، حتى ضُرب به المثل، وسميت قصائده بالحوليات، نسبة إلى الحول أي: السنة؛ وذلك لأنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة أشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر، فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول كامل. 50 وسميت قصائده حوليات؛ لاستغراقها في تنقيحها وتهذيبها وتشهيرها سنة كاملة، وهذا كان دأبه الخاص، وبه تمتاز قصائده وأشعاره عن الآخرين.
كانت أشعاره وقصائده تشكل شكلا عربيا أروع، وأدبيا أجمل، بعد تنقيحه وتهذيبه إياها خطوة بعد خطوة، فكان العرب يأخذون منها بحظ وافر مع ثناء عباقرة الأدب العربي عليها. قال الثعالبي فيه: إنه أجمع الشعراء للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ. وفي معلقته أبيات في نهاية الحسن والجودة، وقد جرت مجرى الأمثال الرائعة. 51 ذكر أن عكرمة بن جرير قال: قلت لأبي: من أشعر الناس؟ قال: أجاهليّة أم إسلاميّة؟ قلت: جاهليّة. قال: زهير، قلت: فالإسلام؟ قال:الفرزدق. وقال عبد الملك لقوم من الشعراء: أي بيت أمدح؟ فاتّفقوا على بيت زهير:
عد من كان له نظر ثاقب وخبرة عميقة في الشعر والأدب شعره من أفضل الأشعار في المدح، وكبار الشعراء آنذاك يعجبون بأشعاره ويمدحونه عليه، ولذلك علقت قصيدته على جدران الكعبة المشرفة، وهي قصيدته المعلقة، يذكر فيها قتل ورد بن حابس العبسي هرم بن ضَمْضَم المري، ويمدح فيها هرم بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عوف، لأنهما احتملا ديته من مالهما، وكان زهير بعد ذلك يكثر من مدح هَرِم وأبيه سنان، وله فيهما قصائد غر، فحلف هرم ألا يمدحه إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدًا أو وليدة أو فرسًا، فاستحيا زهير من كثرة بذله له على كل حال، وجعل يتجنب مقابلته. 53 وهرم بن سنان المُريّ، من أجواد الجاهلية، وهو سيد غطفان، وكان والده سيّد غطفان كذلك، وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم، وكان هرم أعطاه مالًا كثيرًا من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: أجود من هرم. 54 وفيها أبيات دالة على أنها تحوي في طياتها أجمل المعاني، وهي:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعا
بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقوق ومأثم 56
إن أبياته هذه تمدح دون أن تبالغ فيه ولا تكذب في الواقع، بل تذكر فيها الحقائق، وبعد أن أمعن النظر في قصيدته يرى أنه مدح رجالًا يصلحون بين الناس، ويسعون للأمن والسلام، والقيم الإنسانية في المجتمع البشري.
كان زهير يبتكر في نقد أشعاره وتنقيحها أصولا خاصة تزداد بها أبياته وقصائده فصاحة وبلاغة، تراها في جميع أشعاره وأبياته. روي عن الشعبي يرفعه إلى عبد اللّٰه بن عباس رضي اللّٰه تعالى عنهما قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب، في سفر فبينا نحن نسير. قال: يا ابن عباس، ألا تنشدني لشاعر الشعراء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير. قلت: لم صيرته شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحدًا بغير ما فيه، قال أبو عبيدة: صدق أمير المؤمنين، ولشعره ديباجة إن شئت قلت: شهد إن مسسته ذاب، وإن شئت قلت: صخر لو رديت به الجبال لأزالها. 57
كان زهير يمتاز بما نظمه من منثور الحكمة البالغة، وكثرة الأمثال، وسنيِّ المدح، وتجنُّب وحشي الكلام، وعدم مدح أحد إلا بما فيه، وقد كان أحسن الشعراء شعرًا، وأبعدهم عن سخف الكلام، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ، وكان لزهير أخلاق عالية، ونفس كبيرة، مع سعة صدر، وحلم، وورع، فرفع القوم منزلته، وجعلوه سيدًا، وكثر ماله، واتسعت ثروته، وكان مع ذلك عريقًا في الشعر، وكان لشعره تأثير كثير في نفوس العرب، وهو واسطة عقد الفحول من شعراء الطبقة الأولى. 58 أشعاره كانت في قمة من البلاغة والفصاحة، محتوية على الحقائق الواقعية، ليست فيها أفكار خيالية، بل كانت توافق الطباع العربية، والقرائح البشرية السليمة. ولذلك كان زهير فائقًا بين أقرانه من الشعراء الفصحاء البلغاء.
زعم بعض المؤرخين أن زهيرًا قد أدرك الإسلام وقبله، لكنه زعم خاطئ، والحق أنه لم يدرك زمن الإسلام. نعم، إن أبياته تدل على أنه كان من الموحدين، وكان على الفطرة، فقد توفي قبل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، ولا صحة لما ذكره البعض من أنه لقي الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، وزعم أنه رأى رؤيًا في منامه أن سببًا تدلى من السماء إلى الأرض، وكان الناس يمسكونه، فأوله بنبي آخر الزمان، وأن مدته لا تصل إلى زمن بعثه، وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره ثم توفي قبل المبعث بسنة. 59
كان من الشعراء الذين يؤمنون بالبعث والنشور بعد الممات. ذكر أبو عبيدة عن قتيبة بن شبيب بن العوام بن زهير عن آبائه الذين أدركوا بجيرًا وكعبًا ابني زهير قال: كان أبي من مترهبة العرب، وكان يقول: ولا أن تفندون لسجدت للذي يحيي هذه بعد موتها. قال: ثم إن زهيرًا رأى قبل موته بسنة في نومه كأنه رفع إلى السماء حتى كاد يمس السماء بيده، ثم انقطعت به الحبال، فدعا بنيه فقال: يا بني، رأيت كذا وكذا، وإنه سيكون بعدي أمر يعلو من اتبعه ويفلح، فخذوا بحظكم منه، ثم لم يعش إلا يسيرًا حتى هلك، فلم يحل الحول حتى بعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم. 60
وفي شعر زهير زهد ووعظ وتهذيب، حمل بعض الباحثين على اعتباره نصرانيًا، ويشك بروكلمان في ذلك؛ إذ يرى أن أثر النصرانية وإن كان واسع الانتشار في جزيرة العرب في ذلك الوقت، بيد أنه لا توجد لدينا أدلة تحملنا على جعله نصرانيا. 61 وكان زهير يتألّه ويتعفّف في شعره، ويدلّ شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله:
يؤخّر فيودع في كتاب فيدّخر
ليوم الحساب أو يعجّل فينقم 62
إن زهيرا ولو لم يدرك زمن الإسلام إلا أنه أوصى بنيه بأن يؤمنوا بنبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وسيبعث، ولم يكن مشركًا، بل موحدًا يؤمن بالحيات بعد الممات، ويهدد الناس بفناء الدنيا وما فيها.
توفي زهير قبل البعثة النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات بسنة، فقد توفي عام ستمائة وتسعة (609) من الميلاد. ويظهر من شعر ينسب إليه أنه عاش أكثر من مئة سنة. 63 كان شاعرًا جاهليًا، لعب شعره دورًا هامًا في الأدب الجاهلي، كما أثرى الشعر العربي بأفكار مثقفة وعناوين متنوعة، فلم ينظم أشعارًا خياليةً، بل ركز في الحقائق الواقعية، وأطبق عليها شعره. عاش في عصر الجاهلية عفيفًا جديًا، ومن مزاياه أنه قال قصائد عديدة إلا أنه لا يمدح في إحداها مدحًا كذبًا ولا اطراءً، ومدح الرجل بما فيه من الأوصاف والمحاسن، وإلا فلم يكن زهير يمدح أحدًا بما ليس فيه شيء. والجانب المهم من حياته أنه كان في زمان يحب العرب فيه حربًا وضربًا، شن الغارات وهتك الحرمات، ومن دأبهم أن من حارب بجرأة وشجاعة في ميدان الحرب فيحترمونه ويوقرونه، والأعجب المدهش أنه كان في مجتمعهم الجاهلي، جديًا متمسكًا بالحقائق الواقعية، واتضح منه أن الفطرة الإنسانية تبحث عن الأمن والسلام بشرط أن لا تؤثر عليها الدوافع الخارجية بشدة شديدة، وقد بعث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم بأمن وسلام، وخير وسكينة، وكان أصحابه رضي اللّٰه عنهم أروع نموذج وأكمل مثال للأمن والسلام في العالم.